باعت دار "سوذبيز"، صخرة نادرة من المريخ اكتُشفت في النيجر غرب أفريقيا في عام 2023، لمشتري مجهول الهوية في مدينة نيويورك وتعليقا على الحدث قال عالم الحفريات الدكتور بول سيرينو أن هذه "الجوهرة" يجب أن تعود إلى وطنها الأصلي لا سيما أنها من أقدم الكائنات الكونية وتعد الأكبر من نوعها التي عُثر عليها على وجه الأرض.
غير أن أسئلةً كثيرة تلوح في الأفق حول مسار هذه الأموال، وهل بلغت النيجر بالفعل أم لا؟
فالقطع الصغيرة من المواد الفضائية التي تصل الأرض تحظى باحترامٍ دائم، وتُعرض أخرى كتحف فنية، بينما باتت أبحاثها العلمية تأسر العقول وتفتح آفاق جديدة في معرفتنا بالكون، في الوقت الذى وسُرّعت هذه الاكتشافات من مقارنة تجارة النيازك بسوق الفن، فالجمالية والندرة تجعلان من السعر قيمةً لا تُستهان بها.
في بادئ الأمر، كان الانطباع حافلاً بالدهشة حين طُرِح هذا الاكتشاف النادر أمام الجمهور؛ فحتى ذلك الحين كان أقل من 400 من أصل نحو 50 ألف نيزك مكتشف يثبت أنه من جاره الأرض كوكب المريخ، وهو ما يضفي على الحدث طابعًا استثنائيًا.
ولما أُظهرت الصخرة التي تزن 24.7 كيلوجرامًا وهي تتلألأ بورديّات فضية وتوهجات حمراء، تعزز الشعور بأنها ليست مجرد قطعة عابرة من الفضاء، بل قطعة فريدة من نوعها.
ثم توالت الأسئلة حول طريقة وصولها إلى منصة المزاد العالمية. ولم يكن بعيدًا عن ذلك بيان الحكومة النيجرية الذي عبَّر عن “شكوكها حول شرعية التصدير” ومخاوف من احتمال وجود تهريب دولي، بينما أكدت دار "سوذبيز "قوة الإجراءات التي تم اتباعها.
غير أن النيجر قد أطلقت تحقيقًا في ظروف اكتشاف وبيع النيزك، الذي يحمله الرقم العلمي NWA 16788، حيث يرمز NWA إلى غرب وشمال أفريقيا.
لم يكشف الكثير علنًا عن تفاصيل وصول القطعة إلى دار المزادات الأمريكية.
وفي مقالٍ أكاديمي إيطالي صدر العام الماضي، ورد أن النيزك عُثر عليه في 16 نوفمبر 2023 في صحراء الساحل بمنطقة أغايديز في النيجر، على بُعد 90 كيلومترًا غرب واحة "تشيرفا"، على يد “صياد نيازك لم يكشف عن هويته.”
فالصحراء، بطبيعتها القاحلة وقلة التدخل البشري، تظل بيئة مثالية لحفظ النيازك، وهذا يجعل من الصحاري الكبرى ميدانًا رئيسيًا للاكتشافات التي قد تتجه إلى أسواق التجارة الدولية.
، نُقلت الصخرة النيزكية NWA 16788 من المجتمع المحلي إلى تاجر دولي، ثم ما لبثت أن وصلت إلى معرض خاص في مدينة أريتسو الإيطالية.
ووصفت مجلة جامعة فلورنسا هذا التاجر بأنه “مالك معرض إيطالي مهم.” حينها قاد فريق علمي بقيادة جيوفاني براتيسي، أستاذ علم المعادن في الجامعة نفسها، فحص الصخرة لمعرفة تركيبها وأصولها، ثم عُرضت لفترة وجيزة في إيطاليا في عام 2024، بما في ذلك في الوكالة الفضائية الإيطالية في روما. وفي نهاية المطاف ظهرت علنًا في نيويورك الشهر الماضي، مع استبعاد شريحتين بقيتا في إيطاليا لأغراض البحث.
أعلنت سوذبيز أن NWA 16788 “تم تصديره من النيجر ونُقل وفقًا لجميع الإجراءات الدولية ذات الصلة”، وأكدت أن “جميع الوثائق المرتبطة كانت سليمة في كل مرحلة من رحلتها، وفق أفضل الممارسات ومتطلبات الدول المعنية.”
وأضاف متحدث باسم الدار أنها مطلعةٌ على تقارير حول تحقيق النيجر في تصدير النيزك، وأنها “تراجع المعلومات المتاحة لديها في ضوء السؤال المطروح.”
أما البروفيسور سيرينو، مؤسس منظمة NigerHeritage منذ عقد من الزمن، فليس لديه شك في وجود خرقٍ في القانون. يقول: “القانون الدولي يقول إنه لا يجوز ببساطة أخذ شيء مهم من تراث بلد ما”؛ وهو يحارب منذ سنوات من أجل إعادة تراث النيجر، بما فيه ما سقط من السماء، إلى أرضه.
وأضاف انه يخطط لوضع متحفٍ فخمٍ على جزيرة عند مجرى نهر النيجر في عاصمة البلاد، نيامي، ليضم هذه القطع الثمينة.
وأكد ان “القانون الدولي لا يسمح بإخراج شيء ذي مكانة تراثية من بلد ما سواء كان قطعة ثقافية أم مادة طبيعية أم شيئًا من الفضاء خارج حدوده.” وهو يندد بفترة الاستعمار حين كانت القاعدة أن يُترك كل شيء للنهب.
ومن جانب اخر تسعى اتفاقيات عالمية عديدة، من بينها اليونسكو، إلى تنظيم تجارة هذه القطع، لكن ماكس جونيل، الباحث في القانون الدولي، أشار في دراسة عام 2019 إلى أن النيازك قد تندرج ضمن هذه الاتفاقيات، وإن الغموض يظل حول مدى تغطيتها بها، وتترك المسألة لولايات الدول لتحديد موقفها.
وأصدرت النيجر قانونًا خاصًا لحماية تراثها في عام 1997، وأشار سيرينو إلى وجود قائمة تفصيلية تُظهر أن “المعروضات المعدنية” مذكورة ضمن الأعمال الفنية والآثار، لكن النيزك لم يرد ذكره بشكل خاص.
وفي بيانها بشأن بيع سوذبيز، اعترفت النيجر بأنها “لا تمتلك تشريعًا خاصًا بالنيازك بعد”، وهو ما أشار إليه أيضًا المزاد.
وفي أحدث مؤلفاتها، "النيازك"، أشارت غوردون إلى أن المغرب يُعد "واحدًا من أكبر المصدرين العالميين للحجارة الفضائية". وعلى مدار الـ 25 سنة الماضية، كرست البروفسورة حسناء شنّاوي عبد الجانه جهودها للحفاظ على جزء من تلك المادة الكونية، معتبرة إياها جزءًا لا يتجزأ من تراث الوطن وهويته.
تؤكد البروفسورة أن تجارة النيازك ليست مرفوضة بشكل مطلق، لكنها لعبت دورًا فعّالًا في الدفع نحو تنظيم هذا السوق، مع تقديمها لمبادرات تشريعية للحد من استنزاف تلك الثروات.
ومع ذلك، تعترف أن القوانين الجديدة لم تكن كافية تمامًا لوقف تدفق النيازك خارج البلاد. ففي عام 2011، كانت مسؤولة عن جمع مادة من الصحراء بعد سقوط نيزكي رصده مراقبون، وتبيّن لاحقًا أنه من المريخ.
أُطلق عليه اسم نيزك تيسنت، وبلغت كتلته الإجمالية 7 كجم، لكن الآن تقول إن جزءًا صغيرًا من هذه القطعة، لا يتجاوز 30 جرامًا، يبقى في المغرب، فيما توجد أجزاء أخرى في متاحف حول العالم، وأبرزها قطعة كبيرة معروضة في المتحف الطبيعي بلندن.
وفي تعقيباتها على مصير نيزك المريخ الخاص بنيجيريا، تقول إنها لم تكن مفاجأة، إذ أنها "جزء من واقعنا الذي نعيشه منذ 25 سنة". وتعبّر عن أسفها لأنه رغم كل الجهود، فإن الوضع يظل كما هو في العديد من الدول، وأنه من المؤسف أن يُترك الأمر بلا حماية كافية.
أما البروفسور بول سيرينو، مؤسس منظمة NigerHeritage منذ أكثر من عقد، فيتوقع أن تكون عملية بيع النيزك في مزاد سوثبيز بمثابة نقطة تحول، حيث يمكن أن تدفع السلطات في النيجر إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، خاصة أن ظهور هذه القطعة في متحف عام، سيطرح بشكل علني مسألة حقوق البلاد في تراثها الطبيعي والثقافي، وسيجعل من الصعب تجاهل ادعاءات النيجر بأنها صاحبة الحق الأصلي في تلك المادة.
وفي سياق متصل، يظل القانون الدولي غير واضح بشكل كامل بشأن مسؤولية الدول عن حماية تراثها من المواد الفضائية، خاصة أن قوانين حماية التراث الثقافي والطبيعي لا تشمل بشكل صريح النيازك، رغم أن العديد من الاتفاقيات الدولية، بما فيها تلك التي أقرّتها منظمة اليونسكو، تحاول تنظيم تجارة هذه الأجسام الكونية.
وفي عام 1997، أصدرت النيجر قانونًا يهدف إلى حماية تراثها، إلا أن النصوص الحالية لا تتضمن بشكل واضح النيازك أو المواد الفضائية، مما يترك الباب مفتوحًا أمام الثغرات القانونية، ويثير تساؤلات حول مدى قدرة الدول على حماية ممتلكاتها الكونية، خاصة حين تتعلق بمادة ذات قيمة علمية وتراثية عالية، وتاريخية عريقة.
وفي ظل غياب تشريعات واضحة، يبقى السؤال حول كيفية خروج هذه القطع الضخمة والواضحة من البلاد، دون أن تثير انتباه السلطات، من الأمور التي تثير قلق الباحثين والمهتمين بحقوق التراث، وتؤكد على الحاجة الملحة لإعادة النظر في القوانين الدولية والمحلية المنظّمة لهذا القطاع، لضمان حماية الثروات الكونية التي تعود إلى بلادنا، ولحماية إرثنا الطبيعي والثقافي من النهب والاستغلال غير المشروع