خاص وردنا- الجفاف والتلوث يدقان ناقوس الخطر في بحيرة القرعون... هل من منقذ؟

في قلب البقاع اللبناني، حيث كانت يوماً مصدراً للخصب والحياة، تقف بحيرة القرعون اليوم شاهداً صامتاً على إحدى أكبر الكوارث البيئية في لبنان. ما كان مُخططاً له أن يكون مشروعاً رائداً للطاقة والري منذ إنشائه عام 1959، تحوّل إلى بؤرة تلوث ورمز مأساوي لتردّي الإدارة المائية والبيئية. مع صيف عام 2025، بلغت الأزمة مستويات غير مسبوقة، حيث تهدد تداعياتها ليس فقط بإخماد أنظمة الري وتوليد الطاقة، بل بتسميم الأرض والإنسان على حد سواء.

هذه البحيرة، صارت تروي فصولاً مأساوية من الإدارة الكارثية. لقد تجاوزت أزمتها اليوم مجرد انحسار في منسوب المياه أو جفاف مؤقت، بل تحولت إلى قضية وجودية تمس كل لبناني. فهي ليست مجرد مسطح مائي، بل شريان الحياة لأراضٍ زراعية شاسعة، ومصدرا تاريخيا للطاقة الكهرومائية، وموردا محتملا لمياه الشرب، ومحمية طبيعية كان من الممكن أن تكون رئة للبقاع وجنّة للسياحة البيئية. لكن كل هذه الوظائف انهارت تباعاً، تحت وطأة تلوثٍ متعمد وإدارة عشوائية وتقاعس الدولة.

مؤشرات الانهيار: جفاف قياسي وتلوث مرئي

لم تبلغ مستويات المياه في البحيرة بعد ذلك المستوى المنخفض القياسي الذي سُجّل نهاية عام 2020، حين انحسرت المياه كاشفة عن الجسر التاريخي "دير عين الجوزة". لكن المؤشرات الحالية تنذر بسيناريو أكثر قتامة. فالمخزون المائي تراجع إلى مستويات خطيرة، كاشفاً مجدداً عن مبنى من خمسة طوابق كان قد غُمِر تحت مياه البحيرة، وهو المبنى الذي كان مُقدَّماً لجمعية حماية الطبيعة ليكون مرصداً للطيور، ليكون ظهوره اليوم نذير شؤم على وضع البحيرة.

الأمر الذي يفاقم أزمة الجفاف هذه هو الكارثة البيئية المصاحبة لها. فالبحيرة التي تحوّلت على مر السنين إلى مستنقع للصرف الصحي والصناعي والزراعي، باتت مرتعاً خصباً للسيانوبكتيريا (البكتيريا الزرقاء) السامة. لونها الأخضر الغامق الكثيف ورائحتها النتنة ليسا سوى دليلين مرئيين على موتها البطيء، ما أدى إلى انهيار قطاعي الصيد والسياحة البيئية، وبات يهدد صحة السكان في القرى المحيطة.

سامي علوية يوضح حجم الكارثة وخطة الطوارئ

في مقابلة مع "وردنا"، كشف مدير عام المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، المهندس سامي علوية، عن أرقام مروعة وخطة طوارئ وطنية لمواجهة الانهيار الوشيك.

وأكد علوية أن "مخزون بحيرة القرعون حتى منتصف آب/ أغسطس 2025 قد تراجع إلى نحو 57.264 مليون متر مكعب فقط، مقارنة بـ 152.748 مليون متر مكعب في الفترة نفسها من العام الماضي، ما يمثل انخفاضاً حاداً بنسبة 62.5%".

وأضاف أن هذا المستوى "يقترب بشكل خطر من المخزون الاستراتيجي للبحيرة والمقدّر بـ 50 مليون م³، وهو أبعد ما يكون عن سعتها الكاملة البالغة 220 مليون م³".

وفي مواجهة هذا التراجع التاريخي، أطلقت المصلحة خطة طوارئ فورية تشمل:

-إيقاف التشغيل الإنتاجي: تم إيقاف توريد مياه البحيرة إلى معامل عبد العال وأرقش وشارل حلو الكهرومائية بشكل تام، وتحويل دورها إلى دعم طارئ لشبكة الكهرباء فقط عند حالات الانقطاع الكلي (Blackout).

-الاحتفاظ بالمياه: التركيز على الاحتفاظ بأكبر كمية ممكنة من المياه وتوجيهها للقطاعات الحيوية فقط، وهي مياه الشرب والري التكميلي للمحاصيل الإستراتيجية، مع تقنين صارم.

-مواجهة التبخر: التعامل مع واقع تبخر يومي يقدر بـ 120 ألف متر مكعب، وهو استهلاك إجباري لا يمكن وقفه، عبر سياسات الترشيد والمراقبة.

السيانوبكتيريا: العدو الخفي الذي لا يموت

بينما يشكل الجفاف تهديداً مباشراً، يرى الخبراء أن التلوث هو القنبلة الموقوتة الحقيقية. مصدر من وزارة البيئة، يحذّر من أن الظروف الحالية "مثالية لتكاثر السيانوبكتيريا السامة في بركة مغلقة"، معرباً عن خشيته من انتقال سمومها إلى الجوار المحيط.

ويشرح لـ"وردنا"، أن هذه البكتيريا "مستوطنة في البحيرة ولا تموت، بل تختبئ في القاع" مع ارتفاع منسوب المياه، لتعاود الظهور بقوة عند انحساره. ويؤكد أن الحل الجذري يتطلب "معالجة مصادر التلوث من المنبع إلى المصب، والبداية تكون بإنشاء محطات التكرير"، ملقياً باللوم على تأخر التنفيذ وغياب الإرادة السياسية.

خطة طويلة الأمد.. وحبر على ورق

في ردّه على سؤال "وردنا" عن الحلول الجذرية، حدد سامي علوية خطوطاً عريضة لخطة إنقاذ طويلة الأمد تشمل:

-تعزيز كفاءة استخدام المياه عبر فرض أنظمة الري الحديثة

-منع السحب غير المشروع من النهر

-معالجة التعديات والمخالفات على مجرى النهر

-مراقبة مصادر التلوث الصناعي والزراعي

-الإسراع في إنجاز محطات المعالجة

غير أن المشكلة، كما يبدو جلياً، ليست في وضع الخطط، بل في الإرادة السياسية لتطبيقها. محطة تكرير زحلة التي دخلت الخدمة عام 2017 لا تزال الاستثناء الوحيد، بينما تتأخر مشاريع المحطات الأخرى في البقاع الغربي وجنوب البقاع بسبب البيروقراطية وتعثّر التمويل.

يؤكد علوية أن المصلحة تعمل ضمن قانوني المياه والبيئة، حيث "ترصد المخالفات وتُعد محاضر وإخبارات تُرفع إلى النيابة العامة البيئية"، بالتعاون مع الوزارات المعنية. ويشير إلى تطور إيجابي يتمثل في "تشكيل لجنة فنية مشتركة مع وزارة الصناعة بدأت عملها الميداني في تموز/ يوليو 2025، حيث جرى الكشف على معامل في بعلبك الهرمل وتوثيق المخالفات تمهيداً لرفع التقارير للجهات القضائية".

بحيرة القرعون لم تعد مجرد بحيرة، بل هي مقياس حقيقي لمدى جديّة الدولة اللبنانية في حماية مواردها وأمنها المائي والغذائي. المؤشرات كلها حمراء: مخزون مائي ينضب، تلوث يتفشى، خطط تتعثر، وسكان يئنون تحت وطأة أزمة تهدد صحتهم وسبل عيشهم.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل توجد الإرادة السياسية والوطنية الجدية لتحويل الكلام إلى فعل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول بحيرة القرعون من رمز للقلق إلى نصب تذكاري لفشل دولة؟ الجواب، للأسف، يبدو غائباً في مياهها الخضراء المسمومة.

يقرأون الآن