السودان

الشمس لا تشغل مصنعاً.. لكنها تبقي السودانيين على قيد الحياة

الشمس لا تشغل مصنعاً.. لكنها تبقي السودانيين على قيد الحياة

في بلد يغرق في العتمة بسبب الانقطاع المزمن للكهرباء وشلل البنى التحتية، تحولت أشعة الشمس إلى شريان حياة للسودانيين. وعلى أسطح المنازل وفي الأسواق الشعبية، باتت الألواح الزرقاء للطاقة الشمسية المشهد الأبرز، شاهدة على قدرة الناس على التكيّف وسط أجواء الحرب والانهيار.

فقد أُعيد قبل أيام تشغيل محطة مياه نيالا بولاية جنوب دارفور بالطاقة الشمسية، فيما أُجريت عملية جراحية في مستشفى شندي التعليمي بولاية نهر النيل بفضل منظومة بديلة داخل غرفة عمليات النساء والتوليد.

"الشمس مصدر حياتنا"

المواطنة بسملة النحاس، التي تحدثت إلى "العربية.نت" و"الحدث.نت"، قالت إن الطاقة الشمسية أصبحت الملاذ الوحيد بعد انقطاع التيار الكهربائي والغاز لفترات طويلة.

وأضافت: "اعتمدنا عليها في الطهي عبر السخانات، وفي شحن هواتفنا.. صارت الشمس مصدر حياتنا"، لكنها لفتت إلى أن الاعتماد على هذه التقنية ليس مضموناً دائماً، خصوصاً في موسم الخريف حين تحجب الغيوم والضباب أشعة الشمس وتضعف قدرة الألواح على إنتاج الكهرباء.

أسعار تفوق القدرات

ورغم أن أسعار الألواح تبقى "مقبولة نسبياً"، فإنها تظل بعيدة عن متناول غالبية الأسر، إذ تتراوح أسعار الألواح الصغيرة بين 200 و250 ألف جنيه سوداني (أقل من 100 دولار)، فيما ترتفع التكاليف بصورة كبيرة للمشاريع الأكبر مثل حفر الآبار وتشغيل محطات المياه.

ولم يقتصر الاعتماد على أنظمة الطاقة الشمسية على المنازل، بل امتد إلى تشغيل المستشفيات وطواحين الغلال ومحطات مياه الشرب.

وتقول النحاس: "لولا الطاقة الشمسية لتوقفت حياتنا تماماً".

سوق ناشئة رغم الحرب

من جانبه، أوضح التاجر أحمد أبوبكر، من سوق أم درمان، أن الإقبال الأكبر يأتي من أصحاب المحال التجارية والأسر الساعية لتأمين الكهرباء لمنازلها، بعد أن فقد المولد الكهربائي جدواه مع ندرة الوقود وارتفاع أسعاره.

وأشار إلى أن أسعار الأنظمة تتراوح بين 250 ألف جنيه (أقل من 100 دولار) وثلاثة ملايين جنيه (نحو ألف دولار)، تبعاً للحجم والقدرة الإنتاجية.

"الحل لا يمكن أن يكون فردياً"

لكن المهندس وليد الريح يرى أن هذه الحلول تظل محدودة الأثر. وقال لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت": "إذا اقتصر الأمر على شحن هاتف وتشغيل مروحة أو إضاءة بعض المصابيح، فإن الطاقة الشمسية قد تكون بديلاً مناسباً، لكن هل ستشغّل مصنعاً أو ورشة لحام أو ثلاجة موتى في مشرحة؟ الجواب: لا".

وأضاف أن السودان، حتى قبل الحرب، كان بحاجة إلى نحو 5 غيغاواط من الكهرباء، لم يتوفر منها سوى 3. أما اليوم، فلا يتجاوز الإنتاج 1.5 غيغاواط، لا يصل معظمها إلى المستهلكين بسبب انهيار شبكتي النقل والتوزيع. كما يرى أن "إعادة إنعاش قطاع الكهرباء تتطلب دعماً خارجياً، مالياً وفنياً"، مؤكداً أن "المبادرات الفردية وحدها لن تضيء البلاد".

رفاهية لا يملكها سوى القلة

وأوضح المهندس وليد الريح أن الطاقة الشمسية يمكنها، من الناحية الفنية، أن تسهم في تغطية جزء معتبر من احتياجات القطاع السكني، غير أن التكلفة المرتفعة لتركيب الأنظمة تقف عائقاً أمام الغالبية العظمى من المواطنين الذين أنهكتهم الظروف الاقتصادية والحرب، بينما تظل الاستفادة مقصورة على شريحة محدودة قادرة مالياً.

وقد انعكس هذا الواقع في لجوء كثير من المواطنين إلى دفع مقابل مالي لشحن هواتفهم لدى من يملكون أنظمة شمسية بسيطة.

وفيما يخص قطاع الخدمات الصحية، أكد المهندس وليد أنه لا يُتوقع أن تتمكن الطاقة الشمسية من أن تحل محل التيار الكهربائي المتردد في تشغيل الأجهزة الطبية والمعدات الحيوية. أما فيما يتعلق بمحطات المياه، خاصة الآبار، فإن الطاقة الشمسية قد تساعد في تشغيل الطلمبات لفترات قصيرة، لكنها غير قادرة على توفير تشغيل متواصل أو يغطي نصف اليوم على الأقل.

"مشروع الجزيرة.. الحل الأكثر جدوى"

بدورها، روت المهندسة معزة شمس الدين تجربتها قائلة: "كنت أعمل في شركة لاستيراد معدات الطاقة الشمسية بالخرطوم، وبعد اندلاع الحرب نزحت إلى ود مدني، حيث التحقت بإحدى الشركات المتخصصة في حلول الطاقة الشمسية. ومنذ الوهلة الأولى تبيّنت أن مواطني الولاية يمتلكون معرفة جيدة بهذا المجال، إذ شكّلت القطاعات السكنية والزراعية النسبة الأكبر من المبيعات".

وأضافت: "الطابع الزراعي لولاية الجزيرة، ووجود مشروع الجزيرة، أكبر وأشهر المشاريع الزراعية في السودان، عزّزا الطلب بشكل كبير. ومع الارتفاع الكبير في أسعار الوقود اللازم لتشغيل طلمبات الري، أصبحت الطاقة الشمسية البديل الأكثر جدوى وكفاءة".

"قرى كاملة تضيء ليلها بالشمس"

وأوضحت شمس الدين أنه "خلال تلك الفترة، بدأت قرى كاملة تعتمد على أنظمة الطاقة الشمسية للإنارة بدلاً من الشبكة القومية للكهرباء، خاصة مع الانقطاعات الطويلة التي تجاوزت في كثير من الأحيان 12 ساعة يومياً. الطلب شمل الجميع: من الأفراد والأسر إلى الشركات والبنوك والمستشفيات".

استثمار سريع العائد

ورغم ارتفاع التكلفة الأولية نسبياً، تؤكد المهندسة أن المردود الاقتصادي شجّع كثيرين على الاستثمار في هذه التقنية: "تكاليف الأنظمة تُسترد خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر في المشاريع الزراعية".

إلا أنها حذّرت من أنه في ظل النقص الحاد في معامل اختبار تحدد كفاءة الأجهزة، التي يُجلب معظمها من الخارج عبر تجار أفراد ليست لديهم المعرفة الكافية، يجد كثير من الناس في معظم مناطق السودان أنفسهم ضحية لشراء أجهزة ومعدات رديئة وضعيفة الكفاءة، سرعان ما تتعطل وتفقد قيمتها، لتتحول إلى مصدر خسائر فادحة تستنزف الجهود والموارد.

وأشارت شمس الدين إلى أن التجربة امتدت إلى شرق البلاد: "في ولاية كسلا، تركزت المبيعات في البداية على الفنادق والمشاريع الزراعية، ثم سرعان ما اتسع نطاق الاستخدام ليشمل المواطنين بصورة أكبر نتيجة الانقطاعات المستمرة للكهرباء. قبل ذلك كان الاعتماد على الطاقة الشمسية يكاد يقتصر على سكان المناطق النائية والريفية".

"طاقة مؤقتة في بلد الشمس"

وهكذا، ورغم أن الطاقة الشمسية أنقذت السودانيين من العتمة وأبقت قطاعات حيوية على قيد الحياة، فإنها تظل حلاً محدود القدرات لا يستطيع تعويض انهيار شبكة الكهرباء الوطنية. وبينما ينجح الأفراد في إنارة منازلهم وتشغيل مضخاتهم، يبقى السؤال الأوسع:

هل تكفي المبادرات الفردية لإضاءة بلد بأكمله؟

يقرأون الآن