في خضم التبدلات الديموغرافية والسياسية التي يعيشها لبنان منذ عقود، تبرز مسألة ملكية الأراضي كأحد أخطر المؤشرات على التغير العميق الذي يصيب البنية المجتمعية للبلاد. فالتراجع الحاد في نسبة امتلاك المسيحيين للأراضي منذ استقلال لبنان وحتى اليوم، لا يعكس فقط خللًا في التوازن الطائفي، بل يكشف عن ديناميكيات أكثر تعقيدًا تتداخل فيها العوامل السياسية، والاقتصادية، والأمنية، وحتى الدينية.
في هذا السياق، دقّ رئيس "حركة الأرض اللبنانية"، طلال الدويهي، ناقوس الخطر حول ما سمّاه "ترانسفيرا واضحا للأراضي المسيحية"، يهدف إلى إحلال فئات أخرى مكان الوجود المسيحي في العديد من المناطق اللبنانية.
وفقًا للدويهي، كان المسيحيون يمتلكون نحو 86% من أراضي لبنان منذ الاستقلال، أما اليوم فلا تتعدى نسبتهم 39%. هذا يعني أن نحو 50% من أملاك المسيحيين قد فُقدت، وتشمل هذه النسبة أراضي مشاع تم الاعتداء عليها، وأراضي وقف تقع ضمن المناطق ذات الغالبية المسيحية.
وأوضح الدويهي في حديث خاص لـ"وردنا" أن من أصل هذه النسبة، فإن 40% تعود إلى مبيعات أراضٍ قام بها مغتربون مسيحيون، أي أن قسما كبيرا من التراجع ناتج عن عمليات بيع طوعية، لكنها في سياق عام يُنظر إليها كجزء من تفريغ المناطق المسيحية من حضورها العقاري والديموغرافي.
الدويهي كشف عن رقم مقلق يفيد بأن نحو 86 مليون متر مربع من أراضي المسيحيين تم بيعها لأجانب من جنسيات مختلفة، أبرزهم سوريون وفلسطينيون وعراقيون. الأسوأ أن 46 مليون متر مربع من هذه المساحات تمّت عمليات بيعها بطريقة غير قانونية، مخالفة لقانون تملك الأجانب، الذي يضع قيودا واضحة على تملك غير اللبنانيين للعقارات.
وأشار إلى أن هذه المخالفات ما كانت لتتم دون شبكة من المتورطين، حيث يشارك في هذه العمليات بشكل أساسي سماسرة ووسطاء عقاريون، إضافة إلى كتّاب عدل يقبلون بالرشاوى لتسجيل العقود بصورة مخالفة للقانون.
ويحدد القانون أن الأجانب لا يحق لهم تملك أكثر من 3% من أراضي لبنان خارج بيروت، إلا أن الواقع يكشف عن خروقات فاضحة. ففي المتن الجنوبي، خصوصًا بعد حرب الإسناد، تم تجاوز هذه النسبة بشكل كبير، لا سيما في مناطق بعبدا وطريق الشام. أما في المتن الشمالي، فقد تم أيضًا تجاوز السقف القانوني، وفي كسروان، أصبحت النسبة تقترب من تجاوز الحد المسموح به. واللافت أن معظم عمليات الشراء في هذه المناطق لا تُسجل في الصحيفة العقارية الرسمية، ما يزيد من تعقيد التتبع القانوني لها.
من الأمثلة الصارخة التي أوردها الدويهي، بيع 11 ألف متر مربع لشخص إيراني في منطقة الرميلة، بشكل مباشر خلافًا لقانون تملك الأجانب. وقد بدأ هذا الملف يتكشّف بعد التغييرات الأخيرة التي طرأت على التشكيلات الأمنية والقضائية في لبنان، حيث ظهرت معلومات دقيقة عن أسباب إقفال بعض الدوائر العقارية، وعلى رأسها دائرة الزلقا، التي كانت عمليًا مشلولة بسبب سياسة ممنهجة من الترهيب والتضييق على الموظفين.
وقد كشف بعض موظفي الدائرة العقارية في الزلقا، بعد تبدل المناخ الأمني، عن عمليات شراء مشبوهة لعقارات بأسماء مستعارة لصالح جهات إيرانية. وأشاروا إلى أن الشاري الفعلي غالبًا ما يكون مجرد واجهة لجهات غير لبنانية، تعمل على شراء عقارات في مناطق حساسة.
وفي سياق تاريخي مشابه، ذكّر الدويهي بما كان يقوم به الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي "كان يشتري أراضي بأسماء وزراء ونواب وشخصيات مسيحية، ثم تُنقل لاحقًا إلى شركات تابعة له"، في تلميح إلى ممارسات مشابهة من حيث الآلية وإن اختلفت الأهداف.
ولم تقتصر المخاوف على المناطق المركزية، بل وصلت إلى قضاء الهرمل - بعلبك، حيث عبّر الدويهي عن قلق بالغ إزاء مصير أراضي المسيحيين هناك، خاصة بعد نزوح آلاف العائلات اللبنانية من المناطق السورية المتنازع عليها عند الحدود. أما في البقاع الشمالي، فتحدث عن تعرض أصحاب الأراضي المسيحيين لـ"الكثير من المضايقات والزعرنات"، مشيرًا إلى أن الأجهزة الأمنية في بعض المناطق، مثل بلدة القصر، تبلغ المواطنين بأنها عاجزة عن التدخل، لأن "الموضوع أكبر من هيك"، بحسب ما نقله عن السكان.
وأشار الدويهي أيضًا إلى ظاهرة تبييض الأموال من خلال الأراضي المسيحية، حيث "تقوم فئات تملك كميات كبيرة من الأموال النقدية (الكاش)، بشراء الأراضي لتجنّب تحويل أموالها إلى المصارف، وبالتالي الإفلات من أي مساءلة قانونية عن مصدر هذه الأموال". وأضاف أن هؤلاء "يقومون لاحقًا بإعادة بيع الأراضي، في دورة غامضة من تبييض المال عبر الاستثمار العقاري".
ولم يُغفل الدويهي دور بعض المؤسسات الدينية المسيحية، مشيرًا إلى أن "الكنيسة تساهم في هذا المشهد، من خلال تأجير أراضيها لطوائف أخرى ولمدة تصل أحيانًا إلى 100 سنة"، ما يُعد في رأيه تفريطًا بالأرض وتهديدًا للهوية المسيحية في تلك المناطق.
أما الهدف من كل هذه الممارسات، بحسب تعبيره، فهو "ترانسفير واضح لأراضي المسيحيين، من أجل إحلال فئات أخرى مكانهم". ويختم بتحذير لافت: "لن يبقى غير المقابر والكنائس"، معتبرًا أن ما يحصل هو "صراع حضارات"، يشبه ما يجري في أميركا بين البيض والسود، وفي أوروبا بين السكان الأصليين والمهاجرين من أصول عربية وأفريقية.