تعيش المنطقة لحظة فارقة، بعد أن انضمّت دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا إلى قائمة طويلة من الدول التي اعترفت رسميا بدولة فلسطين، وسط قلق من رد إسرائيل يفتح الباب أمام مواجهة إقليمية جديدة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اعتبر الموجة الحالية من الاعترافات تهديدا وجوديا، وقد يرد بخطوات ميدانية وتوسعية، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان سيناريوهات التصعيد التي شهدتها المنطقة بعد السابع من أكتوبر.
وبعد أن ارتفع العلم الفلسطيني على مبنى السفارة الفلسطينية في العاصمة البريطانية لندن، عقب إعلان بريطانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية، وصف السفير الفلسطيني في لندن، حسام زملط، هذه الخطوة بأنها "تاريخية"، معتبرا أنها تأتي في لحظة يقاسي فيها الفلسطينيون في غزة حملة إبادة وتجويع على يد إسرائيل.
نتنياهو يرى في الاعترافات المتتالية تهديدا استراتيجيا لإسرائيل، وقد يستغلها لتبرير توسيع الاستيطان وفرض السيادة على الضفة الغربية، بل وربما شن عملية عسكرية واسعة في غزة. وبذلك تصبح الاعترافات، التي رآها الفلسطينيون إنجازا، مدخلا لتصعيد إسرائيلي غير مسبوق.
وعلى صعيد متصل، تصريحات المبعوث الأميركي، توم باراك، خلال حديثه إلى "سكاي نيوز عربية"، أضافت بعدا جديدً للأزمة، بعد أن أكد بوضوح أن "السلام وهم"، نافيا أي إمكانية لتسوية سياسية حقيقية.
هذا الموقف اعتبره مدير برنامج الدراسات الإقليمية بمركز دراسات الشرق الأوسط، نبيل العتوم، خلال حديثه إلى برنامج "التاسعة" على سكاي نيوز عربية، تعبيرا عن تشاؤم واشنطن المتزايد من التوصل إلى حل للصراع.
العتوم شدد على أن "حديث باراك يكشف تحولا خطيرا في مقاربة الولايات المتحدة، إذ لم يعد الصراع في نظرها مجرد نزاع حدودي يمكن حله بتبادل الأرض مقابل السلام، بل بات صراعا على الهيمنة والسيادة.
هذه المقاربة، برأي العتوم، تجعل من المستحيل تقريبا الرهان على مفاوضات أو مبادرات دبلوماسية، مضيفا: "الأخطر أن هذا الخطاب الأميركي قد يستخدم لتهيئة المنطقة لمرحلة من تغيير موازين القوى، بدلا من البحث عن حلول عادلة".
يذكّر العتوم بمجموعة من الخطوات الإسرائيلية التي بدأت فعليا في السنوات الأخيرة، منها "تشريعات داعمة لفرض السيادة على الضفة الغربية، والتوسع الاستيطاني، وبناء وقائع ميدانية على الأرض تجعل أي حديث عن حل الدولتين بلا معنى".
ويرى العتوم أن إسرائيل ستسير وفق خارطة طريق للتدرج في السيطرة، تبدأ بفرض السيادة على الكتل الاستيطانية الكبرى، مرورا بالمناطق المصنفة (ج) وأجزاء من غور الأردن، وصولا إلى السيطرة على مساحات شاسعة من الضفة.
السلطة الفلسطينية
وفيما يتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين، يرى العتوم أن تلك الاعترافات الدولية "تتزامن مع أزمة شرعية متفاقمة تعيشها السلطة الفلسطينية. فالخطوات الأميركية والإسرائيلية، إلى جانب تصريحات باراك، تشي بمرحلة دفن نهائي لفكرة حل الدولتين، وهذا سيدفع الشارع الفلسطيني نحو خيارات بديلة، قد تكون أشد عنفًا واندفاعًا".
ولفت إلى أن "غياب الأفق السياسي يولد فراغا يملؤه الغضب، وهذا ما قد يقود إلى احتجاجات واسعة النطاق في الضفة والقدس وربما غزة، خصوصا إذا استمرت إسرائيل في مسارها الحالي. وهنا يكمن خطر أن تتحول الاعترافات التي أرادها الفلسطينيون خطوة نحو الحرية، إلى شرارة لموجة تصعيد دموي جديدة".
موقف الأردن
هذه السياسات، برأيه، ليست مجرد إجراءات إدارية، بل تهديد مباشر لفكرة حل الدولتين، وتقويض لاتفاقيات قائمة مثل أوسلو ووادي عربة، متابعا: "أخطر ما فيها أنها ستشعل تداعيات إقليمية، ليس فقط للفلسطينيين، بل للأردن ومصر والمنطقة ككل".
ويرى العتوم أن "الأردن، بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، سيكون المتضرر الأكبر من أي خطوات إسرائيلية أحادية".
وأضاف أن "فرض السيادة على الضفة أو أجزاء منها لا يعني فقط تهديد الأمن القومي الأردني، بل أيضا تهديد الاستقرار الاجتماعي والداخلي، خاصة مع الضغوط المتزايدة على الرأي العام الأردني".
الدولة الفلسطينية تحصد اعترافات تاريخية
كما أشار إلى أن "الأردن يتحمل مسؤولية "الوصاية الهاشمية" على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهو ملف حساس للغاية في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للمقدسات وبناء المستوطنات. لذا قد تجد عمّان نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات ملموسة في حال مضت إسرائيل بخططها، ما قد يفتح جبهة توتر جديدة في المنطقة".
مواجهة أميركية إيرانية
وذكر أنه تحت شعار "مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين"، بنت إيران منظومة واسعة من الأذرع المسلحة، لكن الواقع أن هذه القوى حاربت في كل مكان باستثناء القدس، ما يجعل استمرار غياب الحل العادل للفلسطينيين يوفر الغطاء المثالي لإيران للتمدد والعبث بالأمن الإقليمي.
وبيّن أن تصريحات باراك عن "قطع رأس الأفعى في إيران" تعكس توجها أميركيا نحو مواجهة مباشرة مع طهران، لكنها مواجهة قد تصب في النهاية في مصلحة إسرائيل، التي تسعى إلى ملء أي فراغ إقليمي بسطوتها.
وبشأن فكرة "السلام الاقتصادي" مع إسرائيل، أكد العتوم أن هذا لا يعدو أن يكون وصفة لتأجيل الانفجار، موضحا أن القضية الفلسطينية، التي وصفها الملك عبد الله الثاني بأنها "القضية المركزية في الشرق الأوسط"، هي المحرك الأساس لكل دورات العنف في المنطقة، وأي محاولة لتجاوزها أو استبدالها بمسارات اقتصادية محكومة بالفشل، لأنها لا تمس جوهر المظلمة التاريخية.