في ظل الأزمة المالية المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، عاد الحديث مجددًا عن نية مصرف لبنان رفع سقوف السحوبات النقدية، في خطوة تُعيد طرح السؤال القديم: هل هذه الإجراءات حلول اقتصادية حقيقية، أم مجرد محاولات جديدة لتهدئة الشارع؟
بحسب مصادر خاصة من داخل المصرف المركزي، يدرس المصرف رفع سقف السحوبات وفق التعميمين 158 و166، بحيث تُرفع السحوبات من 800 إلى 1000 دولار للتعميم 158، ومن 400 إلى 500 دولار للتعميم 166، بدءًا من مطلع كانون الأول المقبل.
الباحثة الاقتصادية د. ليال منصور توضح أنّه بالنسبة للخبر عن رفع السقف، لا يوجد الكثير ليقال حوله بعد، لكن ما يمكن قوله هو أنّها ليست خطة اقتصادية حقيقية، مشيرة إلى أنّ الخطوة ليست تقريرًا اقتصادياً مدروساً، بل أقرب إلى خطوة غير اقتصادية تهدف إلى إظهار أنّ الحكومة الجديدة بدأت بالتحرّك، وأنّ حاكم مصرف لبنان يحاول تليين الأمور وتحريك العجلة بشكل أفضل من السابق.
وتشير منصور إلى أنّ ما يجري هو تحرّك غير اقتصادي الطابع، الغاية منه إعطاء الناس انطباع بأن الوضع بدأ يتحسّن، وتضيف أنّه في السابق كان الحدّ الأقصى للسحب مثلاً 400 أو 500 دولار، أما الآن فالمبلغ ازداد قليلًا بعد أن تحسّنت السيولة نتيجة توقّف المصرف المركزي عن تمويل الحكومة.
وتلفت منصور إلى أنّ التأثير الأساسي للقرار اجتماعي ونفسي أكثر منه اقتصادي، موضحة أنّ من يملك ثلاثة أو أربعة أو حتى عشرة آلاف دولار، سيتساءل: لماذا أنتظر أشهرًا لأحصل على أموالي؟ في النهاية، هذه أموالي وليست منّة من أحد. وتؤكد أنّ القرار أقرب إلى محاولة لطمأنة الناس نفسيًا أكثر مما هو إصلاح اقتصادي حقيقي.
وتضيف منصور أنّه لا توجد خطة شاملة أو رؤية متكاملة، وأنّ هذا القرار ليس جزءًا من خطة واضحة تُستكمل لاحقًا، مشيرة إلى أنّه لا يمكن معرفة اسم هذه الخطة أو ما إذا كانت خطة لاسترجاع الأموال، وما إذا تم تحديد حجم الفجوة المالية فعلاً، ومن يتحمّل المسؤولية: الدولة، المصارف أم المصرف المركزي. وتختم منصور بالقول إنّ كل هذه الأسئلة يجب أن تُجاب قبل أن نتمكّن من تقديم تحليل اقتصادي حقيقي.
أما الخبير المالي والاقتصادي عبدالله خزعل، فيشير إلى أنّ الحكومة تعمل حاليًا على قرار يسمح لكل شخص يملك ما يصل إلى مئة ألف دولار بسحب أمواله من المصرف، لكنه يلفت إلى أنّ فتح المجال أمام الجميع في الوقت نفسه سيؤدي إلى ضغط كبير على البنوك، وقد لا تكون المبالغ متوفرة بسهولة.
ويشرح خزعل عبر "وردنا" أنّه حتى الآن لم تُحدّد القيمة الفعلية التي يمكن سحبها، أي إذا كان لديك مئة ألف دولار، لا أحد يعرف كم تساوي فعليًا عند السحب، ويضيف أنّ الدولة تحاول دفع المبالغ بالتقسيط لتفادي الضغط المالي على المصارف، لكن هذا الحل يبقى مؤقتًا وغير جذري.
ويوضح أنّ الذي يملك مئة ألف دولار، إذا عرضت عليه الدولة أن تعطيه 800 أو حتى 1000 دولار شهريًا، فلن يكون راضيًا، لأنه سيحتاج إلى أكثر من تسع سنوات ليسترجع أمواله، مع العلم أنّ التضخم سيأكل من قيمتها. ويؤكد أنّ هذا ليس حلًا اقتصاديًا ولا منطقيًا، فقيمة هذه الأموال تتآكل مع الوقت بسبب التضخم العالمي المرتفع. ويضيف أنّ من يسحب ألف دولار شهريًا، في الحقيقة يخسر جزءًا كبيرًا من قيمته مع مرور الأشهر، وربما بهذه الطريقة تحاول الدولة توفير أكثر من 50% من القيمة الحقيقية للمبالغ، بينما الدفع النقدي دفعة واحدة سيتسبب في أعباء مالية ضخمة، وهو ما تسعى لتجنبه.
ويشير خزعل أيضًا إلى أنّ المشكلة الثانية تكمن في غياب أي هيكل اقتصادي فعلي للدولة، موضحًا أنّه لا توجد خطة واضحة، ولا حتى دراسة اقتصادية شاملة، ولم يُتخذ أي إجراء إصلاحي حقيقي تجاه القطاع المصرفي، ويضيف أنّه بمعنى آخر، لم يتغير شيء فعليًا منذ عام 2019 حتى اليوم، لا خطط ولا إصلاحات ولا رؤية اقتصادية متكاملة.
ويختم خزعل بالقول إن كل القرارات التي تصدر حاليًا تبدو عشوائية وقابلة للتغيير في أي لحظة، فمثلًا إذا قرروا اليوم منحك ألف دولار شهريًا، قد يعودون بعد ستة أشهر ليجروا دراسة جديدة ويُعدّلوا الرقم، وبالتالي يمكن اعتبار هذه الإجراءات مؤقتة وغير ثابتة، ولا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن تستمر أو تتبدّل في المرحلة المقبلة.
بين ما يقدمه الخبر وما يخفيه الواقع، يظهر جليًا أنّ رفع سقوف السحوبات خطوة مؤقتة لطمأنة الناس نفسيا أكثر من كونها إصلاحًا اقتصاديًا. فهي تمنح بعض الأمل، لكنها لا تُعيد الثقة بالقطاع المصرفي، ولا تُعالج جذور الأزمة المالية المستمرة. وفي غياب رؤية متكاملة وخطة واضحة، تبقى هذه الإجراءات حلولًا مؤقتة لأزمة طويلة الأمد، غير مضمونة الاستمرارية ولا محددة النتائج.