في مدنٍ تُغرقها الأزمات من كل صوب، حتى الجسور لم تسلم من البلاء. جسور المشاة التي شُيّدت لتأمين عبورٍ آمن للناس، تحوّلت في كثير من المناطق اللبنانية إلى مراحيض مفتوحة على الهواء الطلق.
من الدورة إلى جونية، ومن جبيل إلى طرابلس، الروائح الكريهة تسبق المارّين بأمتار، لتعلن عن “المشهد” قبل أن تراه العين.
أسفل الجسور، تتكوّن بقع صفراء داكنة على الإسفلت، تختلط بمياه الأمطار وبقايا القمامة. رائحة البول تلتصق بالهواء، فتجعل التنفس مهمة صعبة، وتجعل المارّين يسرعون الخطى كمن يهرب من كارثة.
المارة يغطّون أنوفهم، بعضهم يضحك بسخرية، وآخرون يتمتمون بكلمات غاضبة لا يسمعها أحد.
ليست المشكلة في غياب المراحيض العامة فحسب، بل في فكرة أن الفضاء العام صار مشاعاً لكل ما هو قذر. الدولة غائبة، والبلديات تنشغل بما هو "أهم"، فيما النظافة العامة تُركت لضمير الناس، وضمير الناس، كما يبدو، تآكل هو أيضاً.
الليل هناك أكثر فظاعة. تتحول المساحات المهملة إلى زوايا يرتادها العابرون أو من لا مأوى لهم، يقضون حاجتهم ويمضون. لا أحد يراهم، ولا أحد يسأل. وفي الصباح، يبقى الأثر: رائحة تُعلن أن المكان عاش حياةً ليلية قذرة، وأن النهار سيُعيد القصة من جديد.
تحت كل جسر، حكاية من الإهمال والتقصير، وشاهد صامت على مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه المدن في لبنان. جسور المشاة، التي وُجدت لتربط الناس، صارت اليوم تفصلهم عن رائحة الوطن الجميلة التي كانت.
حين تمرّ قرب أحدها، لا تحتاج إلى كثير من الخيال لتدرك أن المشكلة ليست في "من عملها"، بل في من جعل الأرض كلها مرحاضاً كبيراً، بلا رادع، بلا حياء، وبلا دولة.