لطالما كانت مغارة جعيتا تجربة فريدة من نوعها للزائر اللبناني والأجنبي على حد سواء. إنها الرحلة نحو الهدوء المطلق والصوت الهامس الذي يكاد لا يُسمع، حيث تفرض طبيعة المكان قوانينها الخاصة: "ممنوع التصوير!" و "الصمت التام حفاظاً على التكوينات الكلسية النادرة". هي تجربة تُنحت في ذاكرة اللبناني، حيث يخوض غمار هذا الكنز الطبيعي بخطوات حذرة وبإضاءة خافتة، في انصياع كامل لتلك القواعد الصارمة التي تحفظ عظمة المكان وندرته البيئية.
لكن مؤخراً، تحوّلت هذه التجربة الوطنية "المقدسة" إلى ساحة احتفال صاخب، حيث ضُربت قواعد الصمت والتصوير عرض الحائط. فقد اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر ما يبدو أنه حفل تمهيدي لزفاف داخل مغارة جعيتا الشهيرة، التي تُعدّ واحدة من أهم المعالم الطبيعية والسياحية في لبنان ومرشحة سابقة لتكون ضمن عجائب الدنيا السبع الجديدة. الحفل، الذي أقيم للعروسين سارة شمّاس وألكسندر ويدمان بتنسيق من روبرت هيكل، تضمّن غناءً لأغاني فيروز، وصدحاً للآلات الموسيقية، وتصفيقاً، ورقصاً، وصولاً إلى الدبكة اللبنانية، قبل أن يركب المدعوون القوارب وكأنهم في إيطاليا.
هذا الحدث، الذي يُفترض أن يكون تحت إشراف وزارة السياحة كونه يقام في مرفق حكومي، أثار موجة غضب عارمة بين اللبنانيين، لا سيما مع تسليط الضوء على حساسية الموقع والضوابط الصارمة التي تمنع حتى التصوير العادي داخله، ليتحوّل النقاش إلى تساؤلات حول الأموال ورشوة أصحاب العلاقة، سواء كانوا في وزارة السياحة أو بلدية جعيتا.
حساسية المغارة: لماذا يُمنع الضجيج والضوء القوي؟
كل زائر لهذه المغارة يعلم تماماً القوانين المفروضة وهي عدم التصوير والصوت الهامس. إن أي نشاط صاخب أو إضاءة قوية يُعد انتهاكاً صريحاً لضوابط الحفاظ على الموقع، وذلك لسببين رئيسيين:
الأوّل، للحفاظ على التكوينات الطبيعية: تحتوي المغارة على صواعد وهوابط وتشكّلات كلسية نادرة تكوّنت عبر ملايين السنين. أي إضاءة قوية، خاصة الفلاش، يمكن أن يُغيّر التوازن البيئي الداخلي ويؤثّر سلباً على نمو هذه التكوينات أو لونها الطبيعي.
ثانياً، الحساسية العالية للضوء: الإضاءات القوية والفلاش تُشجّع على نمو الطحالب والفطريات على الصخور. هذا النمو غير المرغوب فيه يُدمّر المنظر الطبيعي للمغارة ويُغيّر لون الصخور بمرور الوقت، ما يُعرّض هذا الكنز الوطني للتلف.
ردّ وزارة السياحة: إنذار رسمي للبلدية ومخالفة شروط العقد
مع تزايد الغضب الشعبي، أصدرت وزارة السياحة بياناً رسمياً يوم الثلاثاء الموافق ٤ نوفمبر، لتوضيح ملابسات الحادثة والخطوات التي ستتخذها.
أوضحت الوزارة أنها وقّعت عقدًا موقتًا وبالتراضي مع بلدية جعيتا لإدارة وتشغيل المغارة، وذلك لحين إطلاق مزايدة مفتوحة لاختيار المستثمر الدائم قبل نهاية العام. لكنها أشارت إلى أن البلدية، ورغم الإيرادات القياسية التي حققتها مؤخرًا، خالفت شروط العقد وسمحت بتنظيم "احتفال (نشاط استثماري/ترويجي) داخل المغارة".
وأكد البيان أن رئيس البلدية كان قد اتصل شفهيًا بالوزيرة لورا الخازن لحود وطرح الفكرة، لكنها أكدت ضرورة تقديم طلب خطي رسمي لتقييم النشاط. ورغم هذا التوجيه، نُظِّم النشاط دون تقديم الطلب الخطي المطلوب أو إظهار العوائد المالية والتشاور مع المختصين، وتحديداً "النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور".
وختاماً، أعلنت الوزارة أنها ستوجه كتاب إنذار رسمي للبلدية لعدم تقيدها بالالتزامات التعاقدية وبتعميم منع استعمال المعالم الوطنية دون ترخيص. وجدّدت الوزارة التزامها بالإشراف على المغارة وإتمام المزايدة المفتوحة سريعًا.
البلدية تدافع: النظام الصوتي راعى الشروط والريع للمغارة
في المقابل حاول عضو رئيس بلدية جعيتا، عماد صفير، توضيح موقف البلدية خلال تصريح اعلامي، مشيراً إلى أن جميع الأنظمة الصوتية والإضاءة المستخدمة "راعَت الشروط المطلوبة"، وأن ريع هذا الحفل "عاد للمغارة والاهتمام بها". إلا أن هذا التوضيح لم يُهدئ من غضب الشارع الذي يرى في إقامة مثل هذا النشاط داخل معلم وطني بهذا الحجم، وفي ظل شروط المنع المعروفة، سابقة خطيرة وتجاوزاً للقوانين البيئية والسياحية المرعية الإجراء.
في نهاية المطاف، تجاوزت قضية "حفل جعيتا" مجرد خلاف على عقد؛ لقد كانت اختبارًا لإرادة الدولة في حماية إرثها. الضرر المعنوي والبيئي الذي أحدثه الضجيج والتصوير داخل الكهف لا يمكن تداركه بإنذار رسمي. وبينما تتجه الأنظار نحو المزايدة المقبلة لاختيار مستثمر جديد، يبقى السؤال الأهم معلقاً: هل ستكون حماية صمت جعيتا وعظمتها هي الأولوية القصوى للقائمين على إدارتها، أم ستبقى هذه الكنوز الوطنية عرضة للاستغلال المادي الذي يكسر قواعدها لصالح أي مستثمر يدفع أكثر؟


