في قلب كارثة تشيرنوبل النووية، تنتشر حياة غريبة لم يتوقعها أحد: فطر أسود غامض لا يتحمل الإشعاع القاتل فحسب، بل يبدو أنه يزدهر فيه.
وعلى جدران المفاعل المدمر نفسه، اكتشف العلماء نوعا فطريا فريدا يدعى "كلادوسبوريوم سفيروسبيرموم" (Cladosporium sphaerospermum)، الذي يغطي جدران المنشآت الأكثر إشعاعا على وجه الأرض بطبقة سوداء مخملية. والأكثر إثارة أن هذا الكائن يبدو وكأنه "يتغذى" على الإشعاع المؤين القاتل للبشر، من خلال آلية تشبه تحويل النباتات للضوء إلى طاقة، لكن باستخدام الإشعاع النووي عوضا عن أشعة الشمس.
ورغم أن العلماء لم يثبتوا بعد بشكل قاطع كيفية استفادة الفطر من الإشعاع، إلا أن التجارب أظهرت نموه المتسارع في البيئات عالية الإشعاع، بل وإمكانية استخدامه كدرع واق من الإشعاع الفضائي في محطة الفضاء الدولية.
وهذا الاكتشاف لا يسلط الضوء فقط على مرونة الحياة في أقسى الظروف، بل قد يفتح أبوابا جديدة في مجالات الطاقة والطب والاستكشاف الفضائي، حيث تتحول الكارثة النووية الأكثر شهرة في التاريخ إلى مختبر طبيعي لكشف أسرار تطور الكائنات الحية.
وبدأت القصة في تسعينيات القرن الماضي، عندما دخل فريق من العلماء الأوكرانيين إلى "التابوت" الخرساني الذي يغطي المفاعل المنصهر. هناك، وسط مستويات إشعاع تصل إلى مئات المرات فوق الحد الآمن للبشر، وجدوا ما لم يكن متوقعا: 37 نوعا من الفطريات تعيش على الجدران، معظمها أسود اللون. وكان الأكثر انتشارا بينها هو فطر "كلادوسبوريوم سفيروسبيرموم"، الذي بدا وكأنه يفضل المناطق الأعلى إشعاعا.
ودفع هذا الاكتشاف علماء من كلية ألبرت أينشتاين للطب في نيويورك إلى إجراء سلسلة تجارب مفاجئة. وعند تعريض هذا الفطر للإشعاع المؤين، لم يمت كما تفعل معظم الكائنات، بل نما أسرع بثلاث مرات. وظهرت فرضية جريئة: ربما كان صبغ الميلانين الأسود في جدران خلاياه يعمل كـ "لوح شمسي بيولوجي"، يحول طاقة الإشعاع إلى طاقة كيميائية مفيدة، في عملية أطلقوا عليها اسم "التخليق الإشعاعي".
ولم تكن هذه مجرد نظرية مثيرة للاهتمام، بل أثارت فضول وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة ناسا. ففي عام 2022، تم إرسال عينات من هذا الفطر إلى محطة الفضاء الدولية، حيث وضعت خارج المحطة لتعاني الإشعاع الكوني المباشر. وقد فاقت النتائج التوقعات، حيث أن الفطر لم ينجح فحسب، بل عمل كدرع حي، حيث خفض كمية الإشعاع الذي اخترق من خلاله بنسبة ملحوظة، ما يفتح الباب أمام إمكانية استخدامه لحماية رواد الفضاء في المهمات الطويلة.
ورغم ذلك، يبقى اللغز الأعمق دون حل، وهو كيف بالضبط "يهضم" الفطر الإشعاع؟. وحتى الآن، لم يتمكن العلماء من رصد العملية الكيميائية الحيوية التي تسمح بتحويل طاقة الجسيمات المؤينة إلى نمو خلوي. وبعض العلماء يعتقدون أن الإشعاع قد يحفز الفطر على إنتاج مضادات أكسدة تحميه، بينما يصر آخرون على أنه قد يكون هناك مسار أيضي غير مكتشف بعد.
والأكيد هو أن هذا الفطر المتواضع أصبح أيقونة للقدرة غير العادية للحياة على التكيف. في مكان اعتبرناه مقبرة للحياة، وجد كائن حي طريقة ليس للبقاء فحسب، بل للازدهار.
وبينما نواجه نحن البشر تحديات الإشعاع والنفايات النووية، قد يكون الحل يكمن في هذا الفطر الأسود الذي تعلم العيش مع ما كنا نظنه محالا أن يعيش فيه أحد.


