تتحرك سامسونغ في سباق الذكاء الاصطناعي بوتيرة مختلفة تماماً عمّا كانت عليه في السنوات الماضية، إذ لم يعد تطوير العتاد وحده كافياً لتعويض الفارق مع منافسين باتوا يتقدمون بسرعة في بناء النماذج والخدمات الرقمية.
في خضم هذا التحوّل العميق، تعود الشركة الكورية العملاقة إلى واحد من أكثر الأساليب حسماً في صناعة التكنولوجيا، عمليات الدمج والاستحواذ، بوصفها مدخلًا استراتيجيًا لاستعادة ميزتها التنافسية.
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز"، إلى أنه:
في عام 2016، بدأ الرئيس المعين حديثا لي جاي يونغ في تنسيق آخر صفقة كبيرة لشركة سامسونغ لتنويع أعمالها: الاستحواذ على شركة هارمان إنترناشونال، الشركة الرائدة في مجال الصوتيات والإلكترونيات للسيارات في الولايات المتحدة، مقابل 8 مليارات دولار، مما وضع الشركة كمورد للقطاع مع نمو استخدامها للتكنولوجيا الرقمية.
بعد مرور ما يقرب من عقد من الزمان، يتجه لي مجددًا نحو عمليات الاستحواذ لمساعدة سامسونغ على ترسيخ تفوقها التكنولوجي.
شكّل أول فريق رسمي لعمليات الدمج والاستحواذ في الشركة في تشرين الثاني/ نوفمبر، بقيادة الرئيس وصانع الصفقات المخضرم آن جونغ هيون، في إطار سعيها الحثيث للحفاظ على قدرتها التنافسية في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.
تأخرت شركة سامسونغ، إحدى أكبر شركات تصنيع الرقائق والإلكترونيات في العالم، عن نظيراتها SK Hynix وMicron في السباق لتوريد رقائق الذاكرة المتقدمة لبناء الذكاء الاصطناعي.
واجهت المجموعة الكورية الجنوبية ضغوطا متزايدة من المساهمين لنشر احتياطياتها النقدية البالغة 108.5 تريليون وون (74 مليار دولار) لتسريع نموها في مجالات تشمل الذكاء الاصطناعي وتصميم الرقائق والبرمجيات.
وينقل التقرير عن رئيس مجموعة أبحاث الشركات "ليدرز إندكس"، بارك جو-جيون، قوله: "تواجه سامسونغ آخر فرصة ذهبية لاستعادة تفوقها التكنولوجي من خلال الاستثمار في مجالات نمو جديدة مستفيدةً من الأرباح المحققة من دورة أشباه الموصلات الفائقة هذه".
ويضيف: "لا سبيل للخروج من مأزقها التكنولوجي أفضل من عمليات الدمج والاستحواذ الفعالة".
وقالت الشركة إنها تتطلع إلى أهداف الدمج والاستحواذ "للتعامل بشكل فعال مع اتجاهات التكنولوجيا العالمية المتغيرة بسرعة" في مجالات تشمل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الطبية والروبوتات، حسبما أخبرت الشركة المحللين خلال مكالمة الأرباح الفصلية في تموز/ يوليو.
مثّل استحواذ سامسونغ على هارمان أكبر صفقة في تاريخها. كان الأداء الأولي للشركة الأميركية ضعيفاً، لكن الشركة التابعة تُحقق الآن أرباحاً تفوق أرباح أقسام التلفزيون والأجهزة المنزلية في سامسونغ، حيث حققت أرباحًا تشغيلية بلغت 1.3 تريليون وون العام الماضي.
لكن منذ استحواذها على الشركة الأميركية، لم تُبرم سامسونغ أي صفقات بهذا الحجم.
خلال العام الماضي، أنجزت مجموعة التكنولوجيا ست عمليات استحواذ، بما في ذلك صفقة لشراء شركة تبريد مراكز البيانات الألمانية "فلاكت غروب" مقابل 1.5 مليار يورو.
كما استحوذت على شركة الرعاية الصحية الرقمية الأميركية "إكسيلث"، ومجموعة التقنيات الطبية الفرنسية "سونيو ساس"، وشركة تطوير الذكاء الاصطناعي الأميركية "أوكسفورد سيمانتيك تكنولوجيز"، وشركة "رينبو روبوتيكس" الكورية الجنوبية.
إلا أن هذه الصفقات لم تُلبِّ توقعات المستثمرين الذين كانوا يأملون في عمليات استحواذ تُحدث نقلة نوعية، وفقًا لمحللين ومديري صناديق استثمارية.
يقول استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في شركة G&K، عاصم جلال، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
فرص سامسونغ للحصول على "أفضلية" في سباق الذكاء الاصطناعي ليست مضمونة، لكنها ليست ضعيفة أيضاً.
الشركة تمتلك عناصر قوة هيكلية واضحة تشمل الذاكرة المتقدمة، وتصنيع الشرائح، وقاعدة أجهزة هائلة، لكنها متأخرة في بعض المسارات مقارنةً بمنافسين أقوياء مثل NVIDIA وTSMC وMicrosoft.
نجاح استراتيجية الدمج والاستحواذ سيكون عاملاً حاسماً لتقليص الفجوة، وربما تحقيق تفوق في بعض الشرائح المتخصصة، وليس في السباق بأكمله.
ما تغيّر في استراتيجية سامسونغ هو أنها أنشأت أول فريق مخصص للدمج والاستحواذ بقيادة مسؤول تنفيذي مختص، في إشارة واضحة إلى نية تنفيذ صفقات "ذات مغزى" بعد سنوات من الحذر. الشركة أعلنت عن تركيزها على مجالات الذكاء الاصطناعي، تصميم الشرائح، البرمجيات، إضافة إلى مجالات قريبة مثل الروبوتات والتقنيات الطبية.
هذا التحول يأتي تحت ضغط مساهمين يطالبون باستغلال احتياطي نقدي ضخم لدعم النمو في عصر الذكاء الاصطناعي.
ويضيف: أما نقاط القوة التي قد تمنح سامسونغ أفضلية، فتشمل:
أولاً موقعها كلاعب رئيسي في ذاكرة الجيل الجديد (HBM)، الضرورية لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي.. ومع تصاعد المنافسة بين NVIDIA وGoogle على شرائح الذكاء الاصطناعي، من المتوقع أن تستفيد سامسونغ من زيادة الطلب على هذه الذاكرة.
ثانياً ذراع تصنيع الشرائح يمثل بديلاً استراتيجياً لشركة TSMC في حال امتلاء طاقتها أو لأسباب جيوسياسية، خصوصاً مع احتمالات توسع Google في بيع شرائح TPU لشركات أخرى.
ثالثاً، قاعدة الأجهزة الضخمة، بما فيها الهواتف والشاشات والأجهزة المنزلية، تمنح سامسونغ منصة قوية لنشر خدمات "Galaxy AI" وميزات توليدية أخرى، وتحقيق دخل متكرر من خدمات وبرمجيات.
ويشدد على أن صفقات الدمج والاستحواذ تساعد سامسونغ على إضافة قدرات برمجية مثل الاستدلال، التخصيص، وإدارة المعرفة، فوق تفوقها في العتاد، مشيراً إلى أنه حتى الآن، تتبع الشركة نهج "micro M&A" عبر صفقات صغيرة متعددة لتعزيز التكنولوجيا تدريجياً، وهو أسلوب مشابه لما تُنسب إليه شركات مثل Apple.
ويرى أن التحديات لا تزال كبيرة؛ ففي شرائح المنطق المتقدم، سامسونغ خلف TSMC بفارق كبير، كما أنها ليست لاعباً رئيسياً في شرائح GPU الخاصة بمراكز البيانات. كما أن تاريخ الشركة في دمج الاستحواذات ليس مثالياً، وبعض المستثمرين يشككون في قدرتها على استيعاب شركات برمجيات وذكاء اصطناعي بسرعة وكفاءة.
ويُشار إلى أن كوريا الجنوبية أصبحت بمثابة نقطة جذب لشركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى في الأشهر الأخيرة، حيث قامت شركات Nvidia وOpenAI وAmazon Web Services بضخ مليارات الدولارات في الاستثمارات وإبرام شراكات استراتيجية لتوسيع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في البلاد.
ويقول المراقبون -بحسب korea herald- إن البلاد تقدم مزيجاً نادراً من المزايا في ظلّ تنافس واشنطن وبكين على التفوق التكنولوجي.
كوريا الجنوبية، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة ورابع أكبر اقتصاد في آسيا، موطنٌ لأبرز مصنّعي الرقائق والسيارات، تُوفّر براعةً في التصنيع، وإمداداتٍ من أشباه الموصلات، وجاهزيةً رقميةً، ودعمًا حكوميًا قويًا، وقاعدةً استراتيجيةً لإنشاء سلاسل توريدٍ متينةٍ للذكاء الاصطناعي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وينقل التقرير عن أستاذ في مختبر أبحاث الذكاء الاصطناعي المستوحى من الإنسان بجامعة كوريا، تشوي بيونج هو، قوله: "لا يمكن لقلة من البلدان أن تضاهي مزيج كوريا من القدرة البرمجية وقوة التصنيع والالتزام الحكومي القوي".
أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري، يقول:
إن دخول سامسونغ بقوة إلى عمليات الدمج والاستحواذ خلال الفترة الأخيرة يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الشركة بأن سباق الذكاء الاصطناعي لن يُحسَم بالعتاد فقط، بل بالقدرة على الجمع بين الشرائح والخوارزميات والبرمجيات المتقدمة في منظومة واحدة متكاملة.
تمتلك سامسونغ فرصة حقيقية للارتقاء في هذا السباق، لأنها تملك ميزة استراتيجية نادرة تتمثل في سيطرتها على الطبقات العميقة للبنية التحتية التقنية: من إنتاج الرقائق والذاكرة المتقدمة، إلى امتلاك واحدة من أكبر قواعد الأجهزة الذكية في العالم.
هذا يمنحها أساسًا قويًا للتوسع في مجال الذكاء الاصطناعي داخل الأجهزة (On-Device AI)، وهو الاتجاه الذي سيشكّل الجيل القادم من الخدمات الذكية.
عمليات الاستحواذ التي تقوم بها الشركة، سواء على شركات ناشئة في مجال البرمجيات أو الشركات المتخصصة في تصميم الخوارزميات، تساعدها على سد فجوات تاريخية في قدراتها البرمجية، وتختصر عليها سنوات من التطوير الداخلي. وهي تحتاج فعلًا إلى هذا النوع من التقدّم السريع لتقليص الفجوة مع شركات مثل آبل وجوجل وOpenAI التي تملك خبرات عميقة في بناء النماذج.
مع ذلك، تبقى أمام سامسونغ عدد من التحديات؛ أبرزها المنافسة الشرسة في تصنيع الشرائح المتقدمة أمام TSMC وإنفيديا، وارتفاع كلفة الاستثمارات الضرورية للحفاظ على موقع قوي في هذا القطاع المتغير بسرعة. كما يتطلب تطوير نماذج لغوية ومنتجات ذكاء اصطناعي متكاملة جذب كفاءات عالمية ليست متاحة بسهولة.
ويستطرد: سامسونغ قادرة على تحقيق تقدّم مهم إذا نجحت في دمج ثلاث طبقات أساسية معاً، وهي:
تفوقها في تصنيع الشرائح والذاكرة
استحواذات مدروسة ترفع قدراتها في البرمجيات والخوارزميات
تفعيل منظومة أجهزتها الضخمة حول العالم لاحتضان تطبيقات الذكاء الاصطناعي
وعند اجتماع هذه العناصر، لا تكون سامسونغ مجرد شركة أجهزة، بل لاعبًا محوريًا يمتلك القدرة على التأثير في البنية العالمية للذكاء الاصطناعي، وربما أحد أبرز المنافسين على تقليص الفجوة مع إنفيديا في السنوات المقبلة.


