تشهد الساحة العراقية مرحلة حساسة تتشابك فيها ضغوط خارجية وأزمات داخلية، وسط تغير واضح في لغة واشنطن التي باتت تعتمد خطابًا أكثر صراحة وصرامة في تعاملها مع بغداد. فبحسب ما نقلته وكالة رويترز عن تسعة مسؤولين أميركيين، ترى واشنطن أن العراق لا يبذل الجهود الكافية للحد من نفوذ الميليشيات الموالية لإيران، وأن الوقت قد حان لرفع مستوى الضغط الدبلوماسي والاقتصادي لضمان حماية المصالح الأميركية، خصوصًا في قطاع الطاقة والاستثمارات.
هذه اللغة الصريحة، التي وُصفت بأنها غير مسبوقة في العلاقات بين بغداد وواشنطن، تعكس تحوّلًا أعمق في الاستراتيجية الأميركية، التي انتقلت من نهج الشراكة الهادئة إلى نهج "العائد على الاستثمار". فواشنطن ترى اليوم أن ضمان انسيابية مشاريع النفط والغاز، وحرية حركة الشركات الأميركية، بات شرطًا أساسيًا لاستمرار تعاونها مع العراق.
وبحسب رويترز، فإن الولايات المتحدة نجحت — بعد حملة ضغط دبلوماسي وتهديدات بالعقوبات — في دفع بغداد إلى عقد اتفاق مع أربيل لإعادة فتح خط النفط المار عبر ميناء جيهان التركي. ويعد هذا التطور مؤشرًا على أن أدوات الضغط المالي، وعلى رأسها سياسة الدولار وعقوبات الخزانة، أصبحت الوسيلة الأكثر فاعلية برأي واشنطن لدفع بغداد نحو تبني سلوك سياسي متماسك.
في المقابل، لا تزال طهران قادرة على ممارسة نفوذ قوي داخل العراق، سواء عبر شبكات الفصائل المسلحة التي تمسك بخيوط حساسة في ملف الطاقة، أو عبر اعتماد بغداد شبه الكامل على الغاز الإيراني لتشغيل محطات الكهرباء. كما يمنح الارتباط الوثيق بين بعض الأحزاب الشيعية العراقية وإيران طهران قدرة تأثير داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، يصعب على واشنطن منافستها.
هذا التداخل بين النفوذين الأميركي والإيراني يجعل العراق مرة أخرى ساحة تماس بين قوتين تتعاملان مع البلاد وفق حسابات تتجاوز الاحتياجات الوطنية العراقية. ومع غياب استراتيجية عراقية واضحة، تبقى القرارات الحكومية أسيرة ردود الأفعال، ما يتيح للقوى الخارجية ملء الفراغ السياسي والاقتصادي.
ويرى مراقبون أن العراق لم يعد يملك رفاهية التردد، فاستمرار غياب الرؤية الوطنية الموحدة قد يقود إلى سيناريوهات معقدة تشمل اضطراب سوق الدولار، وتعطيل مشاريع الطاقة، وتزايد الضغوط المالية، خاصة في ظل مرحلة إقليمية شديدة الحساسية بعد الهجمات التي تعرضت لها منشآت نووية إيرانية مؤخرًا.
وتشير قراءة المزاج السياسي الأميركي — كما عكسته رويترز — إلى أن واشنطن تعيد تقييم علاقتها مع العراق وفق مقاربة جديدة تسعى إلى ضبط الساحة الأمنية وحماية الاستثمارات، بعيدًا عن الخطاب التقليدي الذي كان يركز على الشراكة الاستراتيجية دون اشتراطات مباشرة. وهذا التحول يجعل العراق أمام تحدٍ جوهري: صياغة استراتيجية وطنية توازن بين النفوذين الأميركي والإيراني، وتعيد تعريف مفهوم السيادة ليشمل السيطرة على ملفات الطاقة والاقتصاد والسلاح، وليس فقط الأمن العسكري.


