كتب أنطوني سعد
لم يعد السؤال المطروح في سوريا اليوم هو إن كانت الخريطة ستتغيّر، بل كيف ومتى وأين. فبعد ما شهدته السويداء وجبل الدروز من تحوّل فعلي إلى كيان شبه مستقل بحكم الواقع، يتقدّم الساحل السوري إلى واجهة الأسئلة الثقيلة. منطقة لطالما اعتُبرت ركيزة التوازن وبوصلة الاستقرار، باتت اليوم مرشحة لأن تكون الحلقة التالية في مسلسل التفكك.
ما جرى في السويداء لم يكن حدثاً معزولاً ولا انفجاراً عابراً. كان نموذجاً مصغراً لمسار أوسع، تقوم فكرته على انتقال سوريا من دولة مركزية منهكة إلى فسيفساء كيانات طائفية أو إثنية، لكل منها حساباته وأمنه ورعاته. وفي هذا السياق، لم يعد الساحل بمنأى عن هذه الدينامية، بل يدخلها من باب أكثر حساسية وخطورة.
المعطيات الميدانية والسياسية تشير بوضوح إلى أن الساحل مقبل على حركة ما، قد لا تكون انفصالاً معلناً في البداية، لكنها ستكون إعادة تموضع ذاتي، أمنياً واجتماعياً وسياسياً. توتر مكتوم، انتشار سلاح غير منضبط، صراع نفوذ بين شبكات قديمة وأخرى جديدة، وخوف جماعي من مستقبل غامض، كلها عناصر تُراكم بيئة قابلة للانفجار أو على الأقل للانفصال التدريجي عن المركز.
المشكلة الأساسية أن الحكم في دمشق لم يعد يمتلك القدرة ولا الأدوات لفرض استقرار حقيقي في الساحل. فالدولة عاجزة عن تقديم ضمانات أمنية، ولا تملك مشروعاً سياسياً جامعاً، فيما تعيش المنطقة شعوراً متنامياً بأنها تُترك لتواجه مصيرها وحدها. هذا الفراغ هو بالضبط ما دفع السويداء إلى مسارها الحالي، وهو ما قد يدفع الساحل إلى خيار مشابه، ولو بخصوصية مختلفة.
في خلفية هذا المشهد، يبرز العامل الإسرائيلي كعنصر أساسي، ليس بالضرورة من خلال تدخل مباشر، بل عبر الاستفادة القصوى من التفكك. إسرائيل لا تحتاج اليوم إلى حدود مستقرة مع دولة قوية، بل على العكس تماماً. مصلحتها الاستراتيجية تكمن في جوار هش، منقسم، متناحر، وغير قادر على إنتاج قرار موحد أو تهديد فعلي.
الدويلات الطائفية أو الإثنية تشكّل، من وجهة النظر الإسرائيلية، بيئة مثالية. كيانات ضعيفة، تبحث عن حماية خارجية، متخاصمة في ما بينها، وتبرّر وجود إسرائيل في الإقليم، أو في الحد الأدنى لا تشكّل مصدر إزعاج أمني لها. فحين تتفتت سوريا إلى كيانات صغيرة، يسقط عملياً مفهوم الجبهة الواحدة، ويُدفن شعار “وحدة الصراع”.
من هنا، لا يُقرأ ما يجري في الساحل بعيداً عن هذا السياق. أي تحرّك ساحلي، سواء أتى تحت عنوان الحماية الذاتية أو تنظيم الأمن أو المطالبة بإدارة خاصة، لن يكون مرفوضاً إسرائيلياً. بل قد يُنظر إليه كخطوة إضافية في الاتجاه “الصحيح”، أي اتجاه تفكيك الدولة السورية وتحويلها إلى كتل منفصلة.
الأخطر أن هذا المسار لا يحتاج إلى إعلان ولا إلى توقيع. يكفي أن تتكرّس الوقائع على الأرض: سلطة محلية هنا، تنسيق أمني هناك، خطوط تماس غير معلنة، وتراجع متواصل لدور المركز. تماماً كما حصل في السويداء، وكما حصل سابقاً في مناطق أخرى، لكن هذه المرة في قلب المنطقة الأكثر حساسية.
وبينما ينشغل الخارج بإدارة هذا التفكك لا بمنعه، يبقى الداخل السوري بلا مشروع جامع. لا رؤية وطنية، ولا عقد اجتماعي جديد، ولا قيادة قادرة على إعادة لمّ الشمل. وفي ظل هذا الفراغ، تتحول الطوائف والمناطق إلى أدوات دفاع عن النفس، لا عن الدولة.
التحرك في الساحل لم يعد احتمالاً نظرياً، بل مساراً شبه حتمي في ظل المعطيات الحالية. السؤال لم يعد إن كان سيحصل، بل كيف سيُدار، ومن سيمسك بزمامه، وتحت أي مظلة. وفي كل الأحوال، يبدو أن سوريا تتجه بثبات نحو مرحلة الدويلات، حيث الدولة الواحدة تصبح ذكرى، والسيادة مفهومًا مكسورًا، والمنطقة كلها ساحة مفتوحة لإعادة رسم الخرائط بما لا يزعج إسرائيل، بل يخدمها في العمق.


