عربي مقالات

خاص- قوى خفية تؤجج الصراعات في السودان

يتوه من لا خبرة لديه في الداخل السوداني، حيث المعطى الجغرافي وحده الثابت الوحيد: أنها دولة عربية تقع في الشمال الشرقي من أفريقيا. تحدها مصر من الشمال، وليبيا من الشمال الغربي، وتشاد من الغرب، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي، وجنوب السودان من الجنوب، وأثيوبيا من الجنوب الشرقي، وأريتريا من الشرق، والبحر الأحمر من الشمال الشرقي، وهي ثالث أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا وفي العالم العربي، قبل انفصال الجنوب. والأهم أنه يتوسطها حوض النيل، ويعني ذلك أن أي زعزعة أمنية يمكن أن تهدد قارة بأكملها في مواردها المالية. عدا ذلك لا يمكن أن تعرف من مع من..؟ وهل الغلبة للأحزاب أو القوى السياسية أو اللجان الشعبية أو "أمراء الحرب"، أم أن النفوذ لأميركا أو الصين أو قوات "فاغنر" أو إسرائيل أو لأثرياء المناجم .. وكلها شعاب تأخذ الى أبواب لا تنتهي، وإن تشير التخمينات الى قوى خفية تحرك الساحة السودانية، وتتمثل بـ"الكيزان". فأي الطرقات الأقصر الى فهم ما يجري هناك؟

خاص- قوى خفية تؤجج الصراعات في السودان

في بلد الـ49 مليون مواطن، وبعد نشأة الدولة الحديثة التي تشكّلت قواعدها خلال حقبتين استعماريتين: الإحتلال الخديوي (1821-1885)، والإحتلال البريطاني ( 1898-1955 ) ومضي نحو ستة عقود على إعلان الاستقلال وتجريب سبع نسخ من الدساتير، وستة انتخابات تعددية، وثلاث حقب من الحكم المدني، وثلاثة أنظمة عسكرية، وأربع فترات انتقالية، وثلاث حروب أهلية، وسبع اتفاقيات للسلام، لا يمكن التغاضي عن صعود التيار الديني الذي عزز من القبلية والطائفية، وخدمات زعماء العشائر وشيوخ الطرق الصوفية، نحو السيطرة على مقدرات البلد الغني بموارده الطبيعية، وإن بقي الشعب السوداني يعاني الأمرين من الفقر والجوع بفعل الحصار الدولي وانتظار "الحكم المدني" الموعود.

الحركات الاسلامية

تنامت الحركات الإسلامية، لتبرز في عهد الرئيس الرابع لجمهورية السودان جعفر النميري، ومن ثم في فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير، وما تخلله من دعم الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي، لينحو معظمها نحو مقولة: "المقعد السياسي قبل الدين أحيانا".

ويكاد يجمع خبراء السياسة من أهل البلد، أن تحالف بعض القوى الإسلامية مع النميري في أواخر سنوات حكمه، أدى الى تبني قوانين أيلول/سبتمبر الإسلامية عام 1983، ونتج عنها ممارسات وحشية، وبداية التقسيم الذي تمثل بانفصال الجنوب.


وبعد الاطاحة بعهد النميري، انحسر دور الحركات الإسلامية، ليعودوا من خلال الإنقلاب الذي قام به البشير. وكان استقبل الأخير، وبمباركة الترابي وقيادات الحركة الاسلامية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في الخرطوم بعد طرده من السعودية، مشرعا الأبواب لجماعات وشخصيات مصنفة على قوائم الإرهاب العالمية.

وفي الجنوب، قاد عدد من هذه الحركات، الحروب التي أودت بحياة الآلاف بذريعة التطهير العرقي في إقليم دارفور، متسببين بمآسي لا حصر لها. وفي هذا السياق، يستشهد الكاتب السياسي السوداني خالد التيجاني النور بمقولة لزعيم الحركة الجمهورية محمود طه، والأخير أعدم في عهد النميري، بقوله:"من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الهوس الديني. وسوف تكون تجربة مفيدة للغاية. إذ أنها بلا شك ستبين مدى زيف شعارات هذه الجماعة. وسوف تسيطر هذه الجماعة على السودان سياسيا واقتصاديا، حتى ولو بالوسائل العسكرية. وسوف يذيقون الشعب الأمرين. وسوف يدخلون البلاد في فتنة تحيل نهارها إلى ليل. وسوف تنتهي فيما بينهم وسوف يقتلعون من أرض السودان اقتلاعا".


فرّق تسد

وفي حين حاول رئيس الحكومة السابق الصادق المهدي وضع حد لعقود من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، من خلال المصادقة على اتفاقية سلام تقضي بإيقاف النزاعات وتجميد القوانين الاسلامية التي سنها الترابي، نجح انقلاب البشير عام 1989 بتظهير نفوذ الإخوان، لتبرز مصطلحات جديدة في الساحة، أبرزها "الكيزان".

"الكيزان"

ذاعت مقولة "الدين بحر ونحن كيزانه"، مع تنامي الحركات الإسلامية في السودان، ولاسيما في عهد البشير، وتعني أن الاسلاميين يغرفون بالكوز، الذي هو الإناء، من بحر الدين الذي لا ينضب. وفي اللغة، الكوز إناءٌ بعُرْوة من فخّار أو غيره له أذن يشرب فيه أو يُصَبُّ منه. ومن ثم راجت مجددا خلال الثورة السودانية عام 2019، والتي هدفت لاقتلاع البشير وأعوانه من "الكيزان".


وفي مختلف الحقبات، تحالفت المؤسسة العسكرية والحركات اليسارية والإسلامية والجهوية على ما بينها من تباينات في الأهداف، إنما للوصول الى السلطة على حساب الشعب، ولسان حال ذلك الرجل السوداني الواقف على أطلال منزله وأرزاقه ناحبا ومستنكرا: "ما ذنبي؟"، بعد أيام من اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، والجيش السوداني الذي يقوده الفريق عبد الفتاح البرهان الذي يتولى المجلس السيادي الانتقالي الذي يحكم السودان منذ الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وفي خضم الانقسامات التالية: تيار المؤسسة التقليدية، ويمثله حزبا الأمة والاتحاديون، إضافة الى تيارات القوى الحديثة و الأطراف المتمردة وتيارات المؤسسة العسكرية.

عودة الى التقسيم

في العام 2011، عادت الى الضوء ملامح تقسيم السودان، في ظل فشل النظام السياسي في استيعاب تنوع التركيبة الاجتماعية، وعجزه عن معالجة اختلال معايير المشاركة العادلة في السلطة والثروة. تحسم وزيرة الخارجية السودانية السابقة ونائب رئيس حزب الأمة مريم الصادق المهدي، في أن الصراع بين البرهان وحميدتي يمثل التهديد الأكبر للعملية السياسية، ومشددة على أن الصراع داخل المكون العسكري نفسه من شأنه أن يقضي على المسار السياسي.


أما لماذا "الكيزان" يشعلون وقود الحرب الأخيرة، ثمة تخمين في أن الوصول الى دولة مدنية من شأنه تشليحهم أوراق القوة، في ظل واقع البلاد الاقتصادي المنهار، وتدهور قيمة الجنيه السوداني ومقاطعة مؤسسات التمويل الدولية مثل، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهماز بالإضافة إلى أن الشعب السوداني والثوار، والكيانات السياسية لن ترضى بتوقف العملية السياسية التي كانت قريبة من الاتفاق السياسي النهائي، وتشكيل حكومة جديدة يرضى عنها أكثرية السودانيين.


ولذا، فإن اندلاع العنف في هذا التوقيت يسيّره الإحساس بنفاد الوقت الذي يفقد الإسلاميين أملهم في العودة إلى الكرسي الذي أطاحته الثورة الشعبية.

تعلق مواطنة سودانية: "لن أتحول الى شاهدة زور وأضفي على هذه الحرب مشروعية وطنية او أخلاقية، وأنا أعلم أهدافها وأعلم أن رفاق الأمس هم أعداء اليوم، وأعلم أن المنتصر فيها سيدشن استبدادا يستوجب المقاومة وسنقاومه لو بقينا أحياء".

يقرأون الآن