خاص - كنداكة السودان.. تاريخ ذهبي أنهكته الحروب

يخبر التاريخ السوداني عن حكم مشرق، تولت خلاله النساء دفة قيادة المملكات الكوشية الثلاث في وادي النيل الأوسط: كرمى ونبتة ومروي. آنذاك، في حدود العام 40 قبل الميلاد، عقب وفاة الملك النوبي ترتيكاس، لمع اسم زوجته في المملكة التي شهدت عصرا مزدهرا معتمدة على ثروات الذهب والعاج وخشب الأبانوز والبرونز والحديد والخشب الصلب وتجارة الرقيق مع الدول المجاورة. وفي الوقت الذي أشرفت خلاله على تربية ابنها الأمير أكينيداد، تسلمت القيادة ليسجل التاريخ حقبة واحدة من ألمع النساء اللواتي خضن أحلك المعارك، وتصدين لغطرسة ملوك الرومان، ولاسيما الحاكم يوليوس قيصر. إنها الملكة أماني ريناس، "ذات العين الجريحة"، والتي أجادت استراتيجية الحرب والسلام والمفاوضات وامتلكت دهاء وصلابة لتحمل لقب الكنداكة، أي الحاكمة أو الملكة.

مملكة.. وملكة

تأسست حضارة وادي النيل النوبية الكوشية شمالي السودان عام 1070 ق.م، بعد انهيار العصر البرونزي وتفكك المملكة المصرية الحديثة. وخلال مرحلتها الأولى، تمركزت كوش في نبتة (الآن كريمة في السودان). ويقال أن سيطرتها امتدت الى مصر العليا، إذ حكم ملوك كوش فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين في مصر لنحو قرن من الزمن، قبل أن يطردوا منها.

واعتمدت المملكة، التي نالت شهرة اقتصادية، على نظام داخلي تمثل بإعادة التوزيع، بحيث تجمع الدولة الضرائب وتعيد توزيعها على الشعب. أما خارجيا، فشكلت صلة الوصل الى طرق التجارة عن طريق البحر الأحمر. في عام 780 ق.م، انتقلت العاصمة الى نبتة، ثم الى مروي عام 591 ق.م، حيث حزام المطر الصيفي، ليسجل عام 350 م. حقبة زوال الحضارة الكوشية، من دون تجاوز الإرث التاريخي الذهبي لفترة حكم الكنداكة أماني ريناس.

الكنداكة

حكمت الكنداكة ريناز مملكة كوش المروية خلفا لزوجها ترتيكاس من عام 30 الى 10 قبل الميلاد بالتزامن مع حكم كليوبترا لمصر ومارك أنطوني لروما. وشهدت تلك الفترة، احتلال الرومان لمصر وتوسع جيوشهم جنوبا الى الحدود المتاخمة لمملكة كوش أي النوبة، ومن ثم تخطيها وصولا الى مروي حيث فرضت ضرائب عالية أنهكت أهلها.

وعلى الرغم من الازدهار الذي بلغته المملكة الكوشية، والتي شهدت بناء نحو 200 هرم ونظم حياتية واجتماعية متطورة، أدركت الكنداكة الحاكمة ريناس أن أي خطوة حربية متهورة مع جيوش الرومان يمكن أن تهدد بقاء مملكتها. تحاملت الى حين بدء الحملة الرومانية على شبه الجزيرة العربية وبلاد الحجاز، لينقض جيشها المؤلف من 30 ألف محارب على ما تبقى من الجيش الروماني على أراضيها.

ربح.. وخسارة

في تلك المعركة، والتي قادتها بنفسها، خسرت الكنداكة إحدى عينيها، ولكن إصابتها لم تثنها عن القتال، موقعة هزيمة نكراء في صفوف جيوش الروم، حتى أنها استولت على أسوان وسيناء وجزيرة فيلة وغيرها، وعلى غنائم ثمينة من بينها تمثال للامبراطور الروماني أغسطس قيصر. وفي كيد النساء، تحكي روايات التاريخ، أن أماني ريناس قطعت رأس التمثال ودفنته تحت أدراج معبد، ليدوس عليه الكوشيين خلال دخولهم وخروجهم، في إهانة للإمبراطورية الرومانية ولأغسطس. لكنها في المقابل، أحسنت معاملة الأسرى، إذ منعت تعذيبهم وإذلالهم أو ضربهم، وإنما استخدمتهم في المعابد وسرايا الملوك وبعضهم تلقى علوم الدين والفلك.

الامبراطور.. وهدية السلام

حين علم الامبراطور أغسطس بما فعلته الكنداكة برأس التمثال، استشاط غضبا وطلب من جنوده في مصر الانتقام، لتبدأ الحرب الرومانية المروية، والتي امتدت لأربع سنوات، مستنزفة الجيشين اللذين سجلا المكاسب ومنيا بالخسائر. وتلافيا لمزيد من الخسائر، أرسلت الكنداكة أماني مندوبها الى القائد العسكري والمفكر الروماني بترونيوس ومعه هدية عبارة عن أسهم ذهبية جميلة مرفقة برسالة شفوية تقول فيها: إذا أردتم السلام فالهدية رمز للصداقة والود وإذا أردتم الحرب فاحتفظوا بها لأنكم ستحتاجونها".

استجاب بترونيوس لطلب الكنداكة، معلنا انسحاب الجيش الروماني من الأراضي الكوشية، وتوقفت الحرب حيث جرى توقيع اتفاقية سلام معها في جزيرة ساموس عام 20 قبل الميلاد. وكان من أهم البنود أن هناك منطقة عازلة بين المملكتين في حدود الـ12 ميلا، وأن النوبة معفاة من الجزية. وظلت اتفاقية السلام سارية حتى نهاية القرن الثالث الميلادي.

ذات العين الجريحة

يحفظ التاريخ عن الحاكمة السودانية ريناس، حكمة ودهاء في استخدامها تكتيكات عسكرية محكمة، وفي لجوئها الى مواقف صلبة خلال مفاوضات انتهت باعتراف الرومان باستقلال النوبة وانسحابهم منها، مسجلا: "إنها الكنداكة ذات العين الجريحة"، التي نجحت في دحر الرومان وهزيمتهم.

في عام 10 ق.م، توفيت الحاكمة ودفنت في مقبرة تحمل الرقم 4 في جبل البركل شمالي السودان الحالي، لتلهم مسيرتها لاحقا 11 كنداكة ممن لمعن في فنون واستراتيجيات الحكم، وما زال ذكرهن حاضرا، في رفد المرأة السودانية، ولاسيما خلال إعلان الثورة على حكم البشير عام 2019، بالكثير من الأمل المفقود حاليا في اقتتال العسكر وخراب أرض الذهب والمعادن فوق رؤوس شعب يتطلع الى منقذ، أو ربما منقذة.

يقرأون الآن