اختارت مراسلة "بي بي سي" أليس كودي مرافقة طاقم السفينة ذات اللونين الأحمر والأبيض، وهي معروفة في عالم البحار بأنها تلك المعنية بمهمات إنقاذ المهاجرين الذين يتوهون في متاهات البحر الأبيض المتوسط، حيث تتكرر يوميا مأساة الغرق والفقدان والخسائر بالجملة. ومن خلال أيام عصيبة تروي أليس ما اختبرته مع أولئك الذين يغامرون بكل شيء للعبور الى أوروبا، حيث برأيهم أنهم هناك سيولدون من جديد.
على متن سفينة إنقاذ تقوم بدوريات في البحر بحثًا عن قوارب المهاجرين المنكوبة، تحدثت أليس الى العشرات ممن تمت نجدتهم، في واحدة من أولى عمليات الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط منذ مقتل مئات الأشخاص عندما غرق قارب قبالة الساحل اليوناني قبل أسابيع، حيث أكدوا لها أن لا شيء يمكن أن يمنعهم من محاولة الوصول إلى أوروبا.
قوارب مطاطية
تروي أليس أنه بينما أبحرت سفينة الإنقاذ العملاقة، ظهر في الأفق مشهد قارب مطاطي أزرق داكن، مزدحم برؤوس متمايلة. كان عمال الإنقاذ من منظمة (SOS Mediterranée ) يضعون خوذات وسترات نجاة وهم يتسابقون إلى مكان الحادث في زوارق سريعة. يسحبون المهاجرين بسرعة على متن القوارب واحدًا تلو الآخر، ويبدأون في العد. تقول: "كان الأولاد والشبان، ومعظمهم من غامبيا، في البحر لمدة 15 ساعة وقطعوا مسافة 54 ميلًا بحريًا من مدينة كاستلفيردي الليبية، بالقرب من طرابلس. وجدناهم في حالة صعبة. أخبرني البعض لاحقًا أنه قبل وقت قصير من وصول رجال الإنقاذ، اندلع قتال تقريبًا على متن القارب المكتظ. كان البعض مصممًا على الاستمرار، بينما آخرون يتوسلون للاستسلام والمحاولة مرة أخرى لاحقًا. أحدهم أسقط هاتفه في البحر في المشاجرة. يرتدي أحدهم اللون الأزرق الشاحب المألوف لقميص مانشستر سيتي لكرة القدم، بينما لدى العديد من المهاجرين هواتف آيفون. قليلون أحضروا أي ماء أو طعام. لا يستطيع الكثيرون السباحة، مسلحين فقط بالأنابيب الداخلية للإطارات لاستخدامها كأجهزة تعويم إذا انتهى بهم المطاف في البحر".
وعن أحوالهم بعد الإنقاذ، تعلق أليس: "يبتسم بعض المهاجرين وهم يجلسون في قارب الإنقاذ السريع - يلتقط أحدهم صورة سيلفي على هاتفه. أخبرني أحدهم لاحقًا أنه عندما أمسك بيد أحد رجال الإنقاذ ظنّ: "الآن دخلت أوروبا". وكان تم نقل المجموعة بسرعة إلى سفينة الانقاذ، حيث خضعوا لفحوصات طبية وتلقوا ملابس جديدة وأكياسًا تحتوي على أربطة تحتوي على لوازم مثل فرش الأسنان".
لم تكن أول محاولة
وتؤكد أليس أن غالبية المهاجرين كانوا يدركون مسبقا المخاطر التي يواجهونها. يقول الكثيرون إنها لم تكن محاولتهم الأولى للوصول إلى أوروبا، فقد تجنب البعض الموت بصعوبة، بعد أن تم انتشالهم من القوارب المنكوبة وإعادتهم إلى ليبيا. وأخبرها شاب يبلغ من العمر 17 عامًا: "كنت أحاول سبع مرات". توجز الحال على متن سفينة الانقاذ: "كل مهاجر تحدثت إليه لديه أصدقاء ماتوا وهم يحاولون الرحلة نفسها. وفي الوقت الذي يتابعون فيه الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي عن الكارثة اليونانية، وهي واحدة من أكثر حوادث غرق المهاجرين دموية منذ سنوات، والتي يُعتقد أن ما يصل إلى 750 شخصًا قد لقوا حتفهم، والتي حدثت قبل أقل من أسبوعين، كان هؤلاء المهاجرون قد أبحروا أيضا من ليبيا. قال أحدهم إن ذلك لم يوقفه لأنه يعتقد أن هؤلاء سيكون لديهم نفس العقلية التي يتمتع بها، معلقا: "إما أن تصل إلى أوروبا أو تموت في البحر". وبإصبعه يحسم: "هناك خياران فقط".
وبينما كانت أليس على متن السفينة، تلقت المنظمة تنبيهًا بشأن القارب المطاطي من خلال رسالة هاتفية، وهو خط مساعدة للطوارئ للمهاجرين الذين يواجهون مشكلات في البحر، بالتعاون مع وكالة الحدود الأوروبية "فرونتكس". تنقل عن تلك التجربة: "أكثر من 80 في المئة من المجموعة هم من القصر، الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا. بدأ العديد من الأولاد رحلاتهم قبل ذلك بسنوات، عندما غادروا المنزل على أمل جني الأموال لإرسالها إلى عائلاتهم. يقول الكثيرون إنهم فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، وباعتبارهم الأبناء الأكبر في عائلاتهم، فإنهم يشعرون بالمسؤولية عن إعالة أحبائهم. كانوا بمعظمهم من غامبيا، وقطعوا أكثر من 2000 ميل جنوبي وغربي ليبيا."
وتلفت المراسلة: "وعلى اعتبار أن غامبيا هي واحدة من أفقر البلدان في العالم، وبحسب المنظمة الدولية للهجرة (IOM) إن الغامبيين هاجروا بمعدل أعلى للفرد من أي دولة أخرى في أفريقيا في السنوات الأخيرة.
وفي الفترة من 2015 إلى 2020 ، وصل أكثر من 32 ألف غامبي إلى أوروبا من خلال ما يعرف بالهجرة "غير النظامية". ووصل عدد مماثل بين عامي 2020 و 2022. وتقول "فرونتكس" إنه في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، تضاعف عدد حالات العبور المكتشفة أكثر من الضعف مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022 إلى 50318. إنه أعلى رقم مسجل منذ عام 2017".
تحكي أليس أن المهاجرين القصر شعروا بالارتياح لوجودهم على متن قارب الانقاذ حيث ضمنوا التوجه إلى أوروبا، فاسترخوا بما يكفي ليبدأوا في إخبارها كيف وصلوا إلى هناك: "سلكوا طرقًا مختلفة للوصول إلى ليبيا، باستخدام شبكات من المهربين، لعبور عدة بلدان من غرب إفريقيا إلى الساحل الشمالي. وبحسب سوما، البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا، فإن رحلته بدأت عندما تم الاتصال بـ "عميل" في مالي القريبة، وخطط معه لبدء رحلته إلى أوروبا، حيث سافر عبر الجزائر إلى ليبيا. وعلى طول الطريق، قال إنه تم تقييده وضربه وحرمانه من الطعام من قبل المهربين. لم يكن معه أي فرد من أسرته على متن القارب".
وعن لحظات السعادة لدى أولئك المهاجرين، تقول أليس: "بينما انشغلوا في لعب كرة القدم والاستماع الى الموسيقى الصاخبة على متن السفينة في الطريق الى الميناء، وجدت أن أكثر لحظات السعادة لديهم كانت حين تم توزيع أمتعتهم التي تمكنوا من انتشالها من البحر. لقد كانت تلك، وبينما وزعوها على حبال الغسيل لتجف، آخر ما يربطهم بالوطن والذكريات والعائلة".
وتضيف: " تمثل الحياة على متن السفينة تغييرًا صارخًا عن الطريقة التي يخبروننا بها أنهم كانوا يعيشون قبل الإبحار. في ليبيا، يقولون إنهم كانوا يعيشون في مجمعات يديرها المهربون أثناء محاولتهم جمع الأموال من أجل عبور البحر الأبيض المتوسط. وهذه المرحلة من الرحلة كلفتهم 3500 دينار ليبي (570 جنيهًا إسترلينيًا)".
في واحدة من الحكايات المرة، تنقل أليس عن الصبي "أداما" أنه كان على متن قارب يحمل 125 راكبا غرقوا كان واحدا من 94 ممن نجوا: "لقد شاهدت صديقي يحتضر. نجحت في إنقاذ العديد، وأخفقت أيضا. ولكن من العار بعد كل هذا العودة الى المنزل لأن العائلة اقترضت الكثير من أجل هذه الرحلة بغرض أن تضمن معيلا يعيش في أوروبا". ويضيف الصبي: "لقد كنت مدركا أنه ليس بإمكاننا الوصول الى بر الأمان من دون سفينة الانقاذ "أوشن فايكينغ" ولذلك تتبعتها من خلال الهاتف".
وفقًا للأرقام الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصل أكثر من 64000 شخص إلى إيطاليا بعد عبور البحر المتوسط. وكان أكثر من 1000 من هؤلاء من غامبيا. وعلى متن سفينة الانقاذ، يعطي الطاقم للمجموعة درسًا في اللغة الإيطالية الأساسية، حيث يجلسون على سطح السفينة لتدوين الملاحظات بعناية وتكرار العبارات. وفي حين أن البعض لديهم أصدقاء نجحوا في العبور من قبلهم وشاركوا تفاصيل حياتهم الجديدة، فإن أوروبا هي في الغالب المستقر الذي يأخذهم الى فرق كرة القدم واللاعبين المفضلين لديهم. يقول أحدهم "أريد أن أصبح لاعب كرة قدم مثل رونالدو". والكثيرون متحمسون للنزول في إيطاليا، بلد دوري الدرجة الأولى الإيطالي، وبطلها الجديد نابولي. لكن مستقبلهم لا يزال غير مؤكد.
عندما ترسو السفينة في ميناء باري، يلتزم المراهقون، الذين كانوا يغنون ويرقصون على سطح السفينة في وقت سابق، بالهدوء، ممسكين بالبطانيات الرمادية والوثائق لتقديمها إلى السلطات. يهتز البعض بينما ينتظرون مناداتهم. ويتم استقبالهم في الميناء من قبل مسؤولي الصحة والحدود، وكذلك الصليب الأحمر وموظفي الأمم المتحدة. يتم أخذ البعض في سيارات إسعاف لتلقي العلاج الصحي. يتم وضع الآخرين في حافلات ونقلهم إلى مرافق الاستقبال، حيث سيخضعون لمزيد من التقييمات.
تختم أليس: "بينما يستعد لاتخاذ خطوته الأولى على الأراضي الأوروبية، استدار ذلك الصبي الناجي ملوحا في طريقه الى حياة لا تزال ضبابية".