إن الفسحات الإنسانية الضيقة في حرب غزة المفتوحة، مع هوامشها، لا تغيّر في مسار هذه الحرب ومآلها وأهدافها. قبل شهر من اليوم وصفناها ب"حرب السلام"، وهي لا تزال في مرحلتها الأولى، سواء بقيت محصورة في غزة أو تمددت إلى جبهات أخرى. وستكون نتيجتها حُكماً تسوية تاريخية بين طرفَين مُنهكَين: إسرائيل وفلسطين.
أمّا القوى الإقليمية العظمى (إيران، تركيا...) فإلى تقليم نفوذها في العالم العربي: لا جوائز ترضية لإيران لقاء انكفائها وكفّ أذرعها "حزب اللّه" وسواه، ولا مَكرُمات لتركيا خارج حدودها، ولا إطلاق يد لإسرائيل في مشروعها التوراتي.
إنها حرب تُعيد الجميع إلى أحجامهم الموضوعية كدول وطنية مستقرة ضمن حدودها، وتضع حدّاً لأطماعهم التوسعية. إن "حركة حماس" لن تكون وحدها الخاسرة، بل إسرائيل أيضاً، ومعهما سائر سلّاخيّ القضية الفلسطينية وراكبيّ موجتها ورافعيّ شعاراتها ومستغلّي دمائها. ليس في أجندات المجتمع الدولي، بما فيه أميركا وأوروبا وروسيا والصين معاً، دفع هذه الأطراف الإقليمية نحو هزائم قاضية، بل إلى عمليات تحجيم وترويض تسمح بتمرير التسوية والحل. والمستقبل هو للتنافس الحضاري والسباق إلى المعاصرة، وليس الدوران في مستنقع التخلّف والصراعات العقائدية والدينية المذهبية القاتلة المفتوحة على آفاق مقفلة.
فقبل إعادة تفعيل طريق الحرير من الصين إلى المنطقة وما هو أبعد، وترسيم الطريق الجديد من الهند إلى أوروبا، ومعهما أنابيب الغاز والنفط واستثمار ثروات البحر في شرق المتوسط، هناك رؤية مستقبلية رائدة بدأتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وسائر الخليج، رفعت من خلالها سقف التحدي الحضاري والتنافس الخلاق لخير شعوب المنطقة، بعيداً من نزيف الحروب ومآسيها. وعلى هذه الرؤية السلامية الاقتصادية الإنسانية الحديثة سيتم رسم السلام العتيد في الشرق الأوسط، بعد أن تُنتج الحرب الدائرة الآن مفاعليها في التحجيم المتوازي.
إن أصحاب الأحجام العسكرية المتضخّمة لا يستطيعون الدخول في ممرات التسويات، فلا بد من تنحيفهم وترشيقهم، ولو كان الثمن ثقيلاً عليهم جميعاً، وعلى الأبرياء قبلهم ومعهم وبعدهم. ولا بدّ هنا من أن نكرر المعادلة الواقعية التي تحكم هذه الحرب: "تصغير الأحجام يصنع السلام".