في ستينات القرن المنصرم، تنادى أهل باب التبانة في طرابلس للمشاركة في احتفال بافتتاح مدرسة رسمية طال انتظارها، بعد أن كان أطفال المنطقة يسافرون كل يوم فوق جسر قديم، قاطعين نهر أبي علي ليصلوا إلى أقرب مدرسة، صيفاً وشتاءً. المهم هو أنّ زعيم المدينة كان ضيف الشرف في الاحتفال، وأتت الجماهير لتحيته. خطيب الاحتفال الأول كان المقاول الذي رسى عليه التزام المدرسة، بقدرة قادر ومن دون منافسة. لم يتحدث المقاول إلّا لماماً عن الحاجة إلى العلم وتشجيع الأولاد على الدراسة وتحصيل المستقبل، لكنه قال متوجّها إلى الزعيم "أيها الزعيم، عندما توليت قيادة هذه الأمة، اهتز عرش صهيون، وبكت غولدا مائير، وانقلعت عين موشيه دايان الثانية"، فانطلقت حناجر الجموع بالهتافات لفلسطين وبطول العمر للزعيم محرّرها المظفّر على الأعداء.
ولكن، بعد أن هدأ الجمع، امتطى المنبر "أبو مصطفى" النكدي الطابع، ممثلاً لأبناء المنطقة ليشكر الزعيم فقال: "أتينا اليوم لنحتفل بتجديد الولاء للزعيم بعد الانتخابات المظفرة التي انتخب فيها نائباً من جديد، وتهنئة المقاول بأرباح بناء المدرسة الرسمية التي طال انتظارها، ونسينا الناس. أيها الزعيم لا أحد منا يريدك أن تهز عرش صهيون، ولا أن تقتلع عين موشيه دايان ولا أن تحرّر فلسطين! لكننا نسأل عمّن سيحرّرنا من أفواج الجرذان التي تهاجمنا، وأسراب البعوض التي تمتص دمنا، والجوع الذي يقض مضاجعنا في الليل، ومن بعدها سنتوجّه سريعاً إلى فلسطين. نحن شعب بسيط أيها الزعيم، ومطالبنا بسيطة على قدّنا".
سكتت الجموع للحظات، ومن ثم بدأ اللغط في الصفوف الأمامية واستهجن البعض أقوال "أبو مصطفى" لغمزه من قناة الزعيم بالحديث عن "تلك الأمور التافهة". لكن الزعيم ابتسم بهدوء، ثم توجّه إلى المذياع وقال: "إنّ قضية فلسطين واجب مقدس، ولا شيء سيثنينا عن النضال من أجلها، لا الجوع ولا المرض". وهنا انطلقت الحناجر بالهتاف لفلسطين ولحياة الزعيم. عندها أشار الزعيم إلى أبي مصطفى ليقترب منه وهمس في أذنه قائلاً: "لمن هتفوا أكثر؟".
تذكّرت هذه القصة التي رواها لي والدي، في حمأة العراضات العسكرية الخطرة والعنيفة القائمة اليوم على أساس أنّ الوجهة هي القدس وفلسطين، وأنّ جحافل العناتر والميليشيات المذهبية ستغتنم الفرصة المتاحة اليوم لإنقاذ أهل غزة من المجزرة الرهيبة، وفي الوقت ذاته تنفيذ الوعد الصادق الذي أسكر الناس وجعلهم يهتفون بحياة القائد الميمون، ويرسلون الشهيد وراء الشهيد من فلذات أكبادهم فداء لوعد القائد. لكنني فهمت أنّ هؤلاء مثلهم مثل كل من سبق من طغاة وطنيين سماسرة، فلسطين بالنسبة لهم ما هي إلا مجرد ذريعة وماركة تجارية لتجارة مربحة بالدم والموت والدمار.
لماذا هذا الكلام الآن؟ فمثلي من عاش الأمور بتفاصيلها اليومية، ولم يخض غمار النضال بالخطابات، بل بالخطر الداهم والعمل السرّي والعلني من أجل فلسطين، يعلم حق العلم كم من الذرائع نُسجت لتنصيب أشباه الرجال زعماء على رقاب الناس، فيما كان المناضلون الحقيقيون، أخطأوا أم أصابوا تحت التراب، أو ما بقي من أجسادهم التي أتلفها الجوع، قبل أن تخترقها رصاصات العدو في الصدر، أو خناجر أشباه الزعماء في الظهر، أو أودع آلاف منهم في السجون، أو طُحنوا تحت وقع البراميل المتفجرة، أو اختنقوا بالغازات السامة، أو اغتالهم كاتم صوت على طريق مهجورة في الجنوب، أو قتلهم الجوع والمرض واليأس والجهل.
لا يمكن اليوم أن يقف أيٌ منا موقف المتفرج أمام هول ما يقوم به الصهاينة من جرائم في حق الإنسانية، وفي حق الأبرياء والأطفال. لكن المراقب البسيط سيقارن بين حجم ما اقترفه باسم فلسطين شبه زعيم قابع في قصر ما، أو آخر متحصّن تحت سابع أرض، في حق مئات الآلاف من البشر من رعاياهم المنكوبين منذ عقود طويلة، وبين أشباه زعماء أجّلوا النمو وتجاهلوا الفقر وأتخموا سجونهم بالناس، وأتخموا خزائنهم بالمال، وما زالت فلسطين ذريعة لكل منهم، من طهران إلى الضاحية الجنوبية، ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان. ليس الوقوف وراء المنابر هاتفين "يا قدس نحن قادمون" هو ما يحرّر فلسطين، فالأولوية هي لتحرير البشر من الذلّ والهوان في ظلّ أشباه الزعماء، ومن بعدها تصبح فلسطين وجهة وليست مجرد ذريعة! واليوم يخرج علينا من يتخذ من جراح غزة المفتوحة ذريعة للتسلق كالذباب لكسب شعبية كاذبة تتخذ من حماسة وحمية الشباب وسيلة للقول بان نحن هنا لنزايد على آخرين، ليس إلا.
بعد أيام، قد يعود الهدوء إلى فلسطين، ويخرج البعض من مخابئهم ليرفعوا رايات النصر، ويستمر مسلسل أشباه الزعماء، "بس اللي راحوا راحوا".
نداء الوطن