فتش رجال ميليشيات عربية عن أولاد في ذلك اليوم وعثروا على الطفل الصغير إبراهيم صالح الذي كان عمره عامين.
كان الصغير إبراهيم وأخته الرضيعة ووالدتهما صفاء عبد الكريم يفرون في حزيران/يونيو من مذبحة دامت أسابيع في مدينة الجنينة السودانية أطلق فيها أفراد ميليشيات عربية النار وطعنوا وأحرقوا حتى الموت أبناء قبيلتهم من المساليت أصحاب البشرة الداكنة.
ولقي زوج صفاء حتفه بين من قتلوا. وسعت هي وطفلاها مع عشرات النساء والأطفال إلى الوصول إلى ملاذ آمن في تشاد المجاورة. وكاد ذلك أن يتحقق.
لكن على بعد نحو عشرة كيلومترات من الحدود أوقفتهم قوات من الميليشيات العربية ورجال مسلحون وأمروها بتسليم إبراهيم. وروت كيف فتشوا داخل ملابسه ليعرفوا جنسه ثم أجلسوه وبدأوا في ضرب رأسه وجسده بعصي خشبية.
وقالت صفاء "كان يبكي ويصرخ.. ماما.. ماما" وعندما حاولت إنقاذه أطلق أحد الرجال النار عليها أسفل الكتف وهي إصابة خلفت ندبة وأضافت "بقيت أصرخ.. اتركوا ابني.. لا تقتلوا ابني".
واستمر الرجال في ضرب إبراهيم. وهتفوا "أنتم يا زرقة لن تبقوا في الجنينة" مستخدمين لفظة عنصرية للإشارة لأصحاب البشرة الداكنة مثل المساليت. وأضافت "قالوا إذا كبر الولد سيقاتلنا".
ورغم نزيفها من جرح الرصاصة ورضيعتها بين ذراعيها قالت صفاء إنها استمرت في محاولة وقف الهجوم على إبراهيم لكن الرجال واصلوا ضربه حتى سقط صريعا.
وصفاء واحدة من بين أكثر من 40 أما روين لرويترز كيف تعرض أولادهن وأغلبهم من الذكور للقتل على يد قوات الدعم السريع وميليشيات عربية متحالفة معها خلال حملة قتل عرقية هذا العام وقعت داخل وحول الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور.
وابنها وأطفال آخرون كلهم ينتمون لقبيلة المساليت التي كانت تشكل الأغلبية في الجنينة حتى أجبرتهم قوات الدعم السريع وميليشيا عربية على الخروج منها. وفر نحو نصف مليون أغلبهم من المساليت لتشاد بسبب أعمال العنف تلك.
قتل الآلاف في الهجمات من بينهم نساء وفتيات. كما روت نساء من المساليت تعرضهن لاعتداءات جنسية على يد قوات الدعم السريع التي يهيمن عليها العرب كما ذكرت رويترز تفصيلا الشهر الماضي.
لكن شهودا يقولون إنه خلال موجة القتل تلك، استهدفت القوات العربية الذكور على وجه الخصوص بداية من الرضع وحتى البالغين.
أطفال قتلوا رميا بالرصاص
قالت 36 من الأمهات لرويترز إن أطفالهن قتلوا رميا بالرصاص من مسافة قريبة منهم 33 صبيا وثماني فتيات. وقالت ست أمهات منهن إنهن شاهدن أطفالهن، وبعضهم لا يتجاوز عمره ستة أشهر، وهم يُضربون حتى الموت على يد مسلحين من قوات الدعم السريع وميليشيا عربية. وخمسة من أصل ستة أطفال قتلوا بتلك الطريقة كانوا من الذكور.
كما استخدم القتلة السكاكين أيضا وقال عشرة فروا لتشاد لرويترز إنهم رأوا أطفالا يذبحون كلهم كانوا من الأولاد.
قتل هؤلاء الأطفال لدى فرارهم مع أمهاتهم من الجنينة. وفي الطريق لتشاد، وصف خمسة من الناجين كيف يوقف رجال الميليشيات النساء اللاتي يحملن أطفالهن، ويتحققون من جنس الطفل، ويقتلونه إذا تبين أنه صبي.
المساليت
كما طاردت قوات الدعم السريع والميليشيا المتحالفة معها الرجال أيضا من قبيلة المساليت. وفي أحدث موجة عنف في الجنينة في تشرين الثاننوفمبر كشفت رويترز عن أن مئات الشبان من القبيلة تم جمعهم ونقلهم لمواقع مختلفة في المدينة حيث قال شهود إن بعضهم أُعدم.
وقالت أكثر من 30 امرأة أجرت "رويترز" مقابلات معهن من أجل هذا التقرير إن أزواجهن أو إخوانهن أو آباءهن قتلوا أو فقدوا في هجمات هذا العام. وقالت عدة نساء إنهن أخفين إخوانهن أو هربوهن من الجنينة خشية استهدافهم. وروى عشرات الرجال كيف اضطروا إلى قطع وديان شاسعة والتنقل عبر طرق نائية صوب تشاد لتجنب نقاط تفتيش نصبتها قوات الدعم السريع وميليشيا عربية.
ولم يتسن لرويترز التثبت بشكل مستقل من تفاصيل بعض الروايات. في بعض الحالات، أكد أصدقاء وجيران أجزاء من قصص رواها الناجون. كما تكررت أنماط مشتركة في وصف العنف فيما قاله الناجون. وبالنسبة للبعض تمكنت رويترز من الاطلاع على بطاقات التسجيل التي تصدر للاجئين من الأمم المتحدة.
الامم المتحدة
وجمع موظفو الأمم المتحدة في تشاد حتى الآن بيانات ديموغرافية عن أكثر من ربع اللاجئين البالغ عددهم 484 ألفا فروا من السودان هذا العام ويقيمون حاليا في مخيمات على الحدود.
وبناء على تلك البيانات، تقدر الأمم المتحدة أن عدد النساء البالغات اللاتي عبرن الحدود يبلغ تقريبا مثلي عدد الرجال. وعلى الرغم من استهداف الذكور، فالفجوة أقل وضوحا بين الأطفال إذ تساوى تقريبا عدد الأولاد والبنات.
وقالت أمهات قُتل أطفالهن وشهود آخرون إن أفراد الميليشيات أوضحوا سبب استهدافهم لأولاد المساليت الصغار.. لقد أرادوا التأكد من أن الأطفال لن يكبروا ليصبحوا مقاتلين ويسعون ذات يوم للانتقام من الهجمات على قبيلتهم.
وقالت عزيزة آدم محمد (28 عاما) إن رضيعها الذي كان في الشهر السادس قتل رميا بالرصاص في 14 يونيو حزيران لدى فرارهم لتشاد مع مجموعة أخرى من اللاجئين. وأضافت أن رجال الميليشيات عندما واجهوا المجموعة "هتفوا.. اطلقوا النار.. اطلقوا النار على الصبيان".
وتابعت قائلة "سمعتهم يقولون إن الصبيان سيكبرون وسيقتلوننا... لذلك يجب أن نقضي عليهم الآن".
مفوضية الامم المتحدة
وتقول آنا سكاتون وهي مسؤولة الحماية في حالات الطوارئ في مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في بلدة أدري على الحدود التشادية إن استهداف الذكور له هدف أبعد "يبدو هدف عمليات القتل التخلص من مقاتلين مستقبليين وأيضا التخلص من نسل مجموعة عرقية بعينها".
ويقول مسعود محمد يوسف وهو منسق منظمة تمثل بعض القبائل العربية في الجنينة إن المساليت "يلفقون" القصص للتأثير على الرأي العام. وأضاف أن اتهام الميليشيات العربية وقوات الدعم السريع باستهداف الذكور من المساليت أطفالا وبالغين "لا أساس له".
وتابع قائلا إن الذين قتلوا من المساليت هم فقط من "قتلوا في معارك في الجنينة" وكانوا من المقاتلين المسلحين. وسبق أن ألقى زعماء القبائل العربية اللوم على المساليت في التحريض على العنف.
ولم ترد قوات الدعم السريع على أسئلة من رويترز. وفي بيانات سابقة، قالت إنها ليست ضالعة فيما وصفته بأنه صراع قبلي في الجنينة.
الحرب ضد المساليت
اندلعت تلك الحرب ضد المساليت وسط صراع أوسع نطاقا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد أن كان الطرفان شريكين في انقلاب في 2021 سحق آمال التحول للديمقراطية في السودان. وبدأت المعارك في العاصمة الخرطوم في أبريل نيسان بعد خلاف حول تقاسم السلطة في إطار مقترح كان يهدف للتحول للحكم المدني.
وفي أوائل الشهر الجاري، خلصت الولايات المتحدة إلى أن الطرفين ارتكبا جرائم حرب منذ بدء القتال وامتداده إلى دارفور. وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن قوات الدعم السريع، التي يأتي أغلب أفرادها من جماعات عربية، والميليشيات المتحالفة معها ارتكبت أيضا جرائم ضد الإنسانية وتطهيرا عرقيا. وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات بالمسؤولية عن أي انتهاكات ارتكبت خلال الحرب.
* ضرب حتى الموت
يقول عبدالله عمر عبدالله وهو جندي في الجيش السوداني إنه فر مع مجموعة من 16 آخرين من المساليت في أوائل نوفمبر تشرين الثاني. وكانوا يتجهون بالسيارات عبر الجبال غربي الجنينة باتجاه تشاد. وكان عبدالله قد فر لتوه من قاعدة تابعة للجيش في أردمتا على مشارف الجنينة بعد أن اجتاحت قوات الدعم السريع القاعدة لدى ترسيخ سيطرتها على المدينة.
ولدى قطع المجموعة للطريق عبر الجبال تعرضت لكمين من قوات الدعم السريع وميليشيا عربية وفتحت تلك القوات النار عليهم. وأصيب عبدالله برصاصة في اليد وسقط من السيارة وأمسك بالجرح في محاولة لوقف النزيف واحتمى بحفرة لدى محاولته تجنب المهاجمين.
بدأ عبد الله يرتعش بشكل واضح وهو يصف ما رآه بعد ذلك من مخبئه.
على نفس الطريق، أوقف أفراد يرتدون زي قوات الدعم السريع وميليشيا عربية نساء من المساليت كن متجهات إلى تشاد يحملن صغارهن على ظهورهن. صوب رجال الميليشيات أسلحتهم نحو الأمهات وأمروهن بتسليم الأطفال وبعدها فتش المسلحون في ملابس الأطفال للتحقق من جنسهم.
وقال عبدالله "إذا اكتشفوا أنه ولد يطلقون النار عليه فورا... كانوا صغارا جدا جدا". وقال إنه رأى ثلاثة أطفال صغار يقتلون بهذه الطريقة.
وتابع قائلا والدموع تتساقط على وجنتيه "لم يكن بوسعي فعل أي شيء".
وأضاف "ما رأيته أمر مروع" ثم غطى وجهه براحتيه وابتعد.
وقال أربعة أشخاص آخرين ممن فروا إلى تشاد لرويترز أيضا إنهم رأوا قوات الدعم السريع وميليشيا عربية وهم يجردون الرضع من ملابسهم لمعرفة جنسهم.
* خسارة الأرض
ظل الجندي عبدالله -الذي روى عمليات قتل الأطفال- في الجيش السوداني لتسع سنوات قبل أن يفر. وقال إنه انضم للجيش بسبب تاريخ من الهجمات التي تعرضت لها قبيلته.
ولأنه من المساليت من ولاية غرب دارفور، قال إن بعض ذكرياته الأولى هي التعرض للهجوم بسبب انتمائه العرقي. وتذكر كيف استهدفته ميليشيات عربية منذ زمن بعيد يعود للتسعينيات عندما كان في الثامنة من عمره وتعرضت أسرته للهجوم في قريتهم قرب الجنينة. وقال إن أفراد ميليشيات يمتطون الخيول اجتاحوا القرية ونهبوها وأضرموا فيها النيران. وفر هو وأسرته وقتها.
وقال في مقابلة معه وهو في مستشفى في أدري كان يعالج فيها الشهر الماضي من إصابة يده بالرصاص "اعتادوا على نعتنا بالعبيد. لم يكن هناك حكومة تحمينا... انضميت للجيش لأحمي أهلي".
وغرب دارفور هو الموطن التاريخي للمساليت. ويقولون إنهم يملكون منطقة تشمل ولاية غرب دارفور السودانية وشرق تشاد وتعرف باسم (دار المساليت). وفي أواخر القرن التاسع عشر أسس المساليت، الذين امتهنوا الزراعة في العادة، سلطنة في المنطقة.
* أسر دون عائل
في أحد الأيام وبناء على طلب من "رويترز" جاب أحد قادة المساليت مخيم أورانج، وهو أحد مخيمات اللاجئين على الجانب التشادي من الحدود مع السودان، بسيارة وهو يدعو عبر مكبر للصوت النساء ممن ثكلن أطفالهن في أعمال العنف في الجنينة للتجمع في اليوم التالي تحت شجرة كبيرة لرواية قصصهن.
ومكبرات الصوت هي وسيلة التواصل الجماعية الرئيسية في المخيم الذي ليس به أي تغطية لاتصالات الهواتف المحمولة تقريبا. وفي اليوم التالي وبحلول الساعة التاسعة صباحا، تجمعت عشرات النساء تحت الشجرة وخلال اليوم تدفق المزيد منهن.
قالت كثيرات إنهن فقدن أطفالهن وذكرت أخريات أن فردا من أسرهن غالبا ما يكون من رجال الأسرة كزوج أو أخ أو أب، قتل أو في عداد المفقودين.
وقالت إحداهن إن ابنها الذي كان يبلغ من العمر 16 عاما ووالدها وشقيقها قتلوا جميعا بالرصاص في أبريل نيسان على يد قوات الدعم السريع في منزل أحد الجيران حاولوا الاختباء فيه.
وقالت أخرى إن رجال ميليشيات عربية اقتحموا مدرسة في مخيم للنازحين في الجنينة أيضا في أبريل نيسان وفتحوا النار على مجموعة من الرجال هناك وقتل في الواقعة والدها وأحد إخوتها. وفي اليوم التالي قالت إنهم قتلوا أخا آخر.
ووصفت امرأة ثالثة كيف قُتل أربعة من أعمامها في منزل العائلة في أردمتا في أوائل نوفمبر تشرين الثاني وقالت إن زوجها الجندي في الجيش السوداني مفقود أيضا منذ ذلك الحين.
رويترز