كرر الرئيس جو بايدن مراراً أن الولايات المتحدة تواجه اليوم واحدة من الأوقات النادرة، التي لا تقل خطورة عن بدايات الحرب الباردة، أو الوقت الذي سبق 11 سبتمبر/أيلول. والحق أن صعود الصين، والنزعة الانتقامية الروسية، عاملا تحديات جيوسياسية مضنية في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية الشديدة. ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع فيه بهيمنة واضحة، بينما تتعاظم التهديدات المناخية الوجودية. وما يزيد الأمور تعقيداً حصول ثورة في التكنولوجيا أوسع من الثورة الصناعية، أو بداية العصر النووي وأشد حدة. فمن الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تعمل التقنيات الناشئة في تغيير العالم، بما في ذلك مهنة الاستخبارات. ومن نواحٍ كثيرة، تجعل هذه التطورات مهمةَ وكالة الاستخبارات المركزية أصعب من أي وقت مضى. ويمنح هذا الخصومَ أدوات جديدة تربكنا، وتضلنا، وتعظم تجسسها علينا.
ومهما تغيّرت أحوال العالم، يظل التجسس عبارة عن تفاعل بين البشر والتكنولوجيا. وستبقى ثمة معلومات سرية لا يقدر على نبشها إلا الإنسان، وتبقى عمليات خفية لا يستطيع تنفيذها إلا البشر. وخلافاً لما توقعه بعضهم، لم يجعل التقدم التكنولوجي، وعلى الخصوص في مجال استخبارات الإشارات، مثل هذه العمليات البشرية غير ذات أهمية، بل أحدث ثورة في طريقة تنفيذها. ولكي تكون وكالة الاستخبارات المركزية جهازاً استخباراتياً فعالاً، في القرن الحادي والعشرين، عليها أن تمزج إتقان استعمال التكنولوجيات الناشئة، مع مهارات التعامل مع الناس، والجسارة الفردية التي كانت على الدوام في صميم مهنتنا. وهذا يعني تزويد مسؤولي العمليات بالأدوات، والمهارات اللازمة للتجسس في عالم من المراقبة التكنولوجية المستمرة، وتزويد المحللين بنماذج ذكاء اصطناعي متطورة تستوعب كماً هائلاً من البيانات المتاحة، والمعلومات المكتسبة سراً ليتمكنوا من اتخاذ أفضل القرارات البشرية.
وفي الوقت نفسه، ثمة تحول، كذلك، في طريقة تعامل وكالة الاستخبارات المركزية مع المعلومات الاستخبارية التي تجمعها. وقد غدا "رفع السرية الاستراتيجي"، أي الكشف المتعمد عن بعض الأسرار من أجل إضعاف الخصوم وحشد الحلفاء، أداة أكثر قوة وفعالية في أيدي صناع السياسات. واستخدامه لا يعني تعريض مصادر، أو أساليب جمع المعلومات الاستخبارية، للخطر بشكل متهور، بل المقاومة الحكيمة للنزعة غير الإرادية إلى إبقاء كل الأمور سرية. ويتعلم مجتمع الاستخبارات الأميركي أيضاً القيمة المتعاظمة للدبلوماسية الاستخباراتية، ويكتسب فهماً جديداً لدور جهوده الرامية إلى دعم الحلفاء، ومواجهة الأعداء في دعم صنّاع القرار.
وتواجه وكالة الاستخبارات المركزية، ومهنة الاستخبارات عموماً، اليوم، تحديات تاريخية. فالتحولات الجيوسياسية والتكنولوجية واحدة من أصعب وأهم الاختبارات في تاريخنا. والنجاح رهن المزج مزجاً مبدعاً بين الذكاء البشري التقليدي وبين التكنولوجيات الناشئة. وفي عبارة أخرى، يقتضي الأمر التكيف مع عالم التنبؤ الوحيد المؤكد فيه ما يتعلق بالتغيير، وبحصوله بوتيرة أسرع.