في خضم موجة التحديات التي تحيط بإقليم كردستان، شكلت القرارات المتخذة من بغداد، تهديداً واقعياً لتجربة الإقليم التي طالما عدت "الجانب المشرق" في عراق عصفت به المشكلات الأمنية والسياسية، حيث تبرز قرارات المحكمة الاتحادية كإحدى أهم العوامل المؤثرة بهذا الصدد، فمنذ تأسيسها عام 2005، أثارت الجدل بدءاً حول تفسير الدستور العراقي وانتهاءً بتحجيم صلاحيات إقليم كردستان.
"ألغام قانونية"
خلال السنوات المنصرمة، شهدت العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، شداً وجذباً، وغلب عليها الطابع السياسي، قبل أن تظهر قرارات وصفت بالملغمة للمحكمة الاتحادية إلى الواجهة، حوّلت بوصلة المشهد المضطرب إلى تعقيدات قانونية ودستورية.
وبدأت القرارات الجدلية أولاً حين اعتبرت المحكمة أنّ قانون النفط والغاز الذي أقرّه برلمان كردستان غير دستوري، ممّا أثار أزمة سياسية، لتعقب ذلك بقرار ألغت فيه بعض مواد قانون الانتخابات في الإقليم، ممّا أدّى إلى تأجيلها، لتليه بإصدار قرار ألزمت فيه الحكومة الاتحادية بدفع رواتب موظفي إقليم كردستان مباشرةً، ممّا أثار استياء حكومة الإقليم.
ولم تنتهِ تلك القرارات عند ذلك، حيث أصدرت المحكمة الاتحادية مؤخراً، قراراً بإلغاء نظام الكوتا في برلمان إقليم كردستان، الذي يضمن تمثيلاً للمكونات الدينية والقومية، ومن بينهم المسيحيون والإيزيديون والتركمان.
وواجه القرار انتقادات واسعة من قبل المكونات الدينية والقومية في كردستان، الذين اعتبروا أنه يهدد تمثيلهم في البرلمان، كما اتهم بعض السياسيين الكرد المحكمة الاتحادية بالتدخل في شؤون الإقليم.
ويرى مراقبون، أن مثل هذا القرار يؤدي إلى تقليل مشاركة المكونات الدينية والقومية في العملية السياسية في كردستان الذي أعتبر كملاذ آمن لهم على مدار سنوات العنف والصراع المتتالية في العراق.
ويرى خبراء أن قرارات المحكمة الاتحادية تؤدي إلى تفاقم النزاع حول توزيع الصلاحيات بين بغداد وكردستان، وتطرح تساؤلات حول مستقبل العراق ووحدته. فمن جهة، يطالب إقليم كردستان بالالتزام بالدستور، بينما تُصر أطراف ببغداد على "سلب" الصلاحيات من أربيل.
ويضيفون أنه ما لم يعمد المسؤولون في بغداد الى "تنفيس" الاحتقان" المتراكم، فإن المخاوف من أذى واسع يحيط بمصالح الكرد والعراقيين عموماً.
قوت الكردستانيين
يلخص قرار المحكمة الاتحادية الأخير والخاص برواتب إقليم كردستان، وجود اختلال واضح في تعامل السلطات في بغداد، مع مشكلات الإقليم وحاجاته التي لا تتضمن امورا من باب الترف، وإنما تمس حياة مئات آلاف العائلات ومقومات عيشهم، وتحديدا فيما يتعلق بأزمة الرواتب التي تعرقل مصادر رزق ملايين المواطنين بلا مبررات مقنعة، كما يرى خبراء.
ومن باب آخر، من غير الواضح بالنسبة الى المراقبين كيف يعتقد بعض المسؤولين في بغداد، ان بإمكان أقليم كردستان الاستمرار في تأدية واجباته المحددة في الدستور، تجاه سكنة الإقليم، فيما "الدولة المركزية" تدرك ان النفط الذي تشكل عائداته نحو 80 % من الميزانية السنوية لحكومة الاقليم، اصبح الان ملفا بين يدي السلطات في بغداد، منذ ان أوقفت أنقرة التدفقات عبر خط الأنابيب من الإقليم الى ميناء جيهان، في آذار/مارس من العام 2023، ولم يتم استئنافها حتى الآن، بعد الدعاوى القضائية من جانب الحكومة العراقية.
تلك القرارات والأزمات المتتالية، تدفع الى الاعتقاد أو النتيجة، بأن العديد من الممارسات والخطوات المتخذة من جانب بغداد، وخصوصا في المحكمة العليا وفي البرلمان حيث الحضور القوي للأحزاب والقوى المؤتلفة في "الإطار التنسيقي" المقرب من إيران تخدم فكرة مركزية تقود الى اضعاف اقليم كردستان وتجربته بحد ذاتها، بما في ذلك من خلال محاولات "تجفيف" موارده المالية.
وهذا بالفعل ما حذر منه المتحدث باسم حكومة الاقليم بيشوا هورامي، من محاولات حكومية لـ"تجويع شعب اقليم كردستان" من خلال قطع مستحقات الاقليم المالية.
موقف السوداني
وتلفت مصادر مطلعة الى "النوايا الحسنة" لرئيس الوزراء السوداني في محاولته التعامل مع مثل هذه القضايا مع رئاستي الإقليم وحكومته، لكنها تؤكد ان طيب النوايا وحدها لن يوقف عجلة تدهور الثقة على خط بغداد-اربيل، خاصة ان السوداني برغم كونه رئيس الوزراء، الا انه لا يتمتع بقاعدة حزبية قوية تتيح له التحرك بشكل مستقل عن الضغوطات المتنوعة التي تمارسها بعض قوى "الإطار التنسيقي" والتي لبعضها أجنحة عسكرية مسلحة.
ويضرب المراقبون مثلاً، بالخطة الأكبر التي طرحتها حكومة محمد شياع السوداني منذ توليها الحكم قبل أكثر من عامين، تتمثل في مشروع "طريق التنمية" الذي يفترض أن يربط ما بين الخليج عبر البصرة وصعودا نحو الحدود التركية، والذي يتضمن استثمارات قد تتعدى ال17 مليار دولار، ويتوقع ان يدر أرباحا سنوية بنحو 4 مليارات دولار، يتجنب في مخططاته المناطق الجغرافية التابعة لإقليم كردستان، بشكل لا يبدو عفويا.
ويعتبر المراقبون أن مثل هذه الخطوة لا يمكن فهمها سوى في إطار سعي بعض القوى السياسية والمتنفذة والمرتبطة بدعمها لرئيس الوزراء السوداني، الى تهميش الإقليم من مشاريع التنمية ومما يمكن أن يحول دون تحقيق إيرادات مالية إضافية صارت هشة أصلا خصوصا بعد قرار المحكمة التجارية الدولية في باريس بعدم مشروعية صادرات النفط من الإقليم باتجاه تركيا، ما أهدر حتى الان عوائد محتملة تقدر بأكثر من 7 مليارات دولار، بحسب تصريح سابق لوزير الثروات الطبيعية في اقليم كردستان كمال محمد صالح.
ومن البديهي الاعتقاد ان امتداد "طريق التنمية" عبر الإقليم نفسه سيساهم في تنشيط العجلة الاقتصادية من خلال الاستثمار المباشر في خط القطار والطرقات السريعة التي يتطلبها المشروع، ناهيك عن أن تفعيل الطريق سيسمح بإقامة مشاريع تجارية وسياحية على طول امتداد الطريق، وهو ما كان من الممكن أن يساهم ليس فقط في تحسين معيشة الناس في المناطق التي يعبرها المشروع، وانما ايضا في تكامل التنمية على مستوى العراق الاتحادي ومحافظاته بما في ذلك اقليم كردستان، وهي من التوقعات البديهية لدور الدولة، التي يفترض أن تحرص عليها.
وتتصدر الخشية- بحسب مراقبين- أن تتخطى تداعيات ما يجري من "ألاعيب السياسة وضغوطها"، الى ما يمس مصالح العراق وجوهر حياته الدستورية ونظامه الاتحادي. كما يشير المشهد الى ما جرى مؤخرا في المحكمة الاتحادية العليا حيث اضطر القاضي عبدالرحمن زيباري الى تقديم استقالته من عضوية المحكمة احتجاجا على القرارات الصادرة مؤخرا ضد اقليم كردستان، حيث أعلن انه "لمس وجود نزعة في قرارات المحكمة المتتالية نحو العودة التدريجية إلى أُسس النظام المركزي للحكم، والابتعاد شيئا فشيئا عن أُسس ومبادئ النظام الاتحادي من خلال توسيع نطاق الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية".
وتقول مصادر سياسية لوكالة شفق نيوز أنه على الرغم من روح التعاون التي أظهرتها رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة في اربيل، الا ان الخلافات المتراكمة، تحولت مع مرور السنوات الى حالات شائكة لأنه لم يتم معالجتها أولا بأول، على غرار ما يجري في قضية رواتب موظفي اقليم كردستان وهم بمئات الالاف، حيث تقول حكومة اربيل ان الحكومة الاتحادية لم ترسل الاموال اللازمة والمخصصة في الميزانية للإقليم، فيما تقول حكومة بغداد إن البرلمان أدخل تغييرات على الميزانية عرقلت إرسال الأموال، وأنها بالمقابل تقوم بمنح الإقليم، الأموال على شكل قروض لحين حل المشكلة.
وقد يبدو للبعض ان هذا يمثل اشكالا اجرائيا بسيطا، لكنه يترافق مع وقف مبيعات النفط عبر خط جيهان، وأيضا مع تزايد هجمات نواب وشخصيات واعلام القوى المنتمية إلى "الإطار التنسيقي"، الداعمة للسوداني، على أي مصدر مالي لسلطات الإقليم، بما في ذلك المنافذ الحدودية والرسوم والضرائب، وكأن المطلوب فعليا خنق الاقليم ماليا بالكامل.
وكان السوداني قال في مقابلة تلفزيونية في يناير/كانون الثاني الماضي، ان "الحل النهائي حتى ننتهي من هذا الملف هو ان يتم التعامل مع موظفي الإقليم أسوة بموظفي الدولة العراقية، وان يتسلم راتبه بغض النظر عن هذه التفاصيل التي نتحدث عنها، الا ان ذلك يتطلب تعديل القانون، في مجلس الوزراء، وارساله الى مجلس النواب".
وتأتي هذه التعقيدات برغم ان حكومة الاقليم أكدت مرارا أنها أوفت بالتزاماتها تجاه بغداد كافة، بما في ذلك تسليم واردات النفط، وتولى فريق التدقيق المشترك عملية التدقيق والمراجعة لجميع الايرادات والانفاق والملاكات الوظيفية في الإقليم. وبينما يقول السوداني انه "في قانون الموازنة يوجد بند واضح حول الإنفاق العام، ومنه نحدد نسبة 12.6 في المئة كحصة للإقليم ومنحها بتمويل شهري، ولكن لا يوجد بند واضح في قانون الموازنة خاص برواتب الموظفين"، الا ان حكومة الاقليم تقول انه يتحتم على الحكومة الاتحادية "تحقيق العدالة" في موضوع الرواتب، وأنه من الضروري ألا يتم ربط رواتب الموظفين والمتقاعدين باستئناف نفط الاقليم باعتبار ان الاقليم سلم هذا الملف للسلطة الاتحادية بعد قرار هيئة التحكيم في غرفة التجارة الدولية في باريس.
ويأتي ذلك على الرغم من وصول سلطات الاقليم والحكومة الاتحادية الى اتفاق ينص على إجراء مبيعات النفط عبر المؤسسة العامة لتسويق النفط "سومو" ووضع الإيرادات في حساب مصرفي تديره اربيل وتشرف عليه بغداد، الا انه بعد مرور عام على وقف الصادرات الى تركيا، لم يتم استئنافها، لأسباب عدة من بينها هيئة التحكيم في باريس أمرت أنقرة بدفع تعويضات لبغداد بقيمة 1.5 مليار دولار تقريبا عن الأضرار الناجمة عن تصدير النفط من الإقليم بين عامي 2014 و2018.
"حلول" في الأفق؟
ويقول وزير الخارجية فؤاد حسين لوكالة "بلومبرغ" الأمريكية ان الحكومة تسعى لتعديل الميزانية الاتحادية بحيث تتضمن رسوم الاستيراد والعبور للنفط الخام الذي سيتم تصديره الى ميناء جيهان (حوالى نصف مليون برميل يوميا)، حيث ان القضية تدور حولها مفاوضات بين بغداد وشركات نفط عالمية في محاولة لإعادة تشغيل الخط بعد عام على توقفه، مشيرا الى ان البحث الرئيسي يتعلق برسوم النقل والاسترداد حيث تبلغ التكلفة الحقيقية نحو 21 دولارا للبرميل مقابل 6 دولارات محددة في ميزانية العراق.
وهناك حلول ممكنة من اجل طي صفحة الخلافات النفطية التي لم تحسم منذ 20 سنة. فمثلا اقترح "معهد واشنطن" الامريكي معالجة هذه الخلافات النفطية بين بغداد واربيل من خلال انشاء شركة طاقة وطنية مستقلة مدعومة من الحكومة الاتحادية تتمحور حول اقليم كردستان ويكون مقرها فيه، على غرار شركات النفط العراقية الإقليمية أو القائمة في المحافظات، مضيفا انه من الممكن ألا تقتصر أنشطة هذه الشركة على النفط والغاز، بل قد تشمل أيضا استغلال غاز الشعلة وتوزيع الطاقة، مما يوفر فرصة للخروج بسيناريو مربح بالنسبة لبغداد وأربيل سوية.
لكن الارادة السياسية في بغداد يشوبها الغموض، ما بين "النوايا الحسنة" للسوداني، وبين "الأجندات" المختلفة التي تمثلها قوى سياسية تتعامل مع الاقليم بندية وخصومة، وتكثف من اتهاماتها للاقليم تارة بالارتباط بالمخابرات الاسرائيلية وتارة بالارتماء بالحضن الامريكي، وبهذه الذرائع يصبح من المبرر ان تتساقط على اربيل صواريخ، وتتزعزع الثقة المأمولة بين بغداد واربيل.
ويجري ذلك فيما تحذر رئاستا الإقليم والحكومة فيها من مخاطر انهيار الوضع في الإقليم، وهي مخاوف تجسدت بتأكيد رئيس كردستان نيجيرفان بارزاني، خلال زيارته الأخيرة لبغداد "عدم جواز الخلط بين حياة ومعيشة المواطنين وبين المشكلات والخلافات السياسية، التي جعلت الناس يعيشون وضعاً معيشياً سيئاً جراء عدم معالجتها"، بالإضافة إلى رسالة رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني الى الرئيس الامريكي جو بايدن في العام الماضي، كما في تقديرات مجلة "فورين بوليسي" في آب/اغسطس الماضي، من أن توقف ايرادات النفط ستكون آثاره مدمرة على الإقليم، وقد يؤدي الى انهياره، وربما ايضا الى حرب اهلية في العراق.