تأخر الرد الإيراني على الاستهداف الإسرائيلي للقسم القنصلي في سفارتها في العاصمة السورية دمشق. وقد مضى أكثر من أسبوع على إطلاق الوعود بالرد على جميع المستويات القيادية والعسكرية والسياسية، وأن إسرائيل وقيادتها "سيندمون على هذا العمل"، بحسب تعبير المرشد في أول تعليق صدر عن مسؤول إيراني.
قد يكون هذا التأخير متعمداً، وهو كذلك، من الجانب الإيراني، أولاً بهدف إدخال الجانب الإسرائيلي في حالة انتظار وترقب واستنفار، في سياق ما يعرف بـ"الحرب النفسية". وثانياً لقياس حجم ردود الفعل الصادرة عن العواصم الدولية المعنية بمأزق تل أبيب وتداعيات هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بخاصة موقف الولايات المتحدة الأميركية وما يمكن أن تذهب إليه في حال قامت طهران بالرد. وثالثاً، هذا الانتظار والتأخير، يعطيان فرصة للقيادة الإيرانية ودوائر القرار لاستيعاب هذا التطور ودراسة أبعاده وما يمكن أن يحصل من تطورات في حالتي الرد أو عدم الرد، وأيضاً يساعدان على تهدئة المواقف الانفعالية بما يتيح لها مروحة واسعة من الخيارات.
النظام الإيراني يبدو محرجاً أمام المنظومة الإقليمية التي أنشأها في عدد من بلدان المنطقة، ودخلت المعركة، هذه المعركة ضد إسرائيل تحت عنوان محور المقاومة ووحدت الساحات، لكنها تصب كلها في خدمة استراتيجية طهران الإقليمية وصراع المصالح والنفوذ بينها وبين إسرائيل من جهة، وبينها وبين دول المحيط العربي والإقليمي من جهة أخرى.
ولأن عدم الرد الإيراني سيترك أثراً سلبياً لدى هذه الفصائل وشعوراً بتركها وحيدة في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية وما فيها من مسؤولية عن خيارات أسهمت في تدمير البنى التحتية في بلدانها إلى جانب الخسائر البشرية الكبيرة، وبالتالي فإن مصداقيتها أمام هذه الفصائل التي ترتبط معها برابط عقائدي، قد تصاب بانتكاسة قاسية، وتفقد بالتالي مسوغات الخطاب الأيديولوجي الذي عملت على بنائه وتكريسه في العقود الماضية.
أما على الصعيد الداخلي، فإن عدم اندفاع النظام والمؤسسة العسكرية وحرس الثورة وعدم اللجوء إلى خيار الرد السريع، على رغم مما وفرته الضربة الإسرائيلية من فرصة لترجمة الشعارات والمواقف عالية النبرة من إسرائيل ووجودها في الإقليم، قد لا يعني أن هذه المنظومة قد أسقطت خيار الرد عن أجندتها، بما هو دفاع عن السيادة الإيرانية، التي إذا ما سمحت بانتهاكها، فستكون عرضة لاعتداءات مماثلة في المستقبل.
هذا التروي، فتح الباب أمام أصوات داخلية تدعو إلى تغليب العقل والمصلحة على العواطف واستعراض القوة، وأن هذه التطورات يمكن تحويلها إلى فرصة للتوصل إلى حلول لما يشهده الإقليم المتوتر والواقف على حافة الحرب الشاملة، بخاصة إذا ما دخل في أتون الرد والرد المقابل. وأن بمقدور إيران توظيف هذا الاعتداء للدفع باتجاه التوصل لوقف إطلاق نار شامل ودائم في قطاع غزة والإقليم، وفتح مسار تسوية سياسية لجميع الأزمات.
من هنا يمكن قراءة الحراك الدبلوماسي الذي بدأه وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان من العاصمة العمانية مسقط، التي تعتبر الوسيط الأبرز والأكثر ثقة لدى النظام الإيراني في نقل الرسائل بينه وبين الإدارة الأميركية. وما يمكن أن تفتحه من أبواب على تكهنات بإمكانية أن تفتح طهران خطاً موازياً لخط الرد العسكري، تحاول من خلاله توظيف التهديد بالرد وما يعنيه من تصعيد مفتوح على جميع الاحتمالات، من أجل إطلاق حوار جدي مع الإدارة الأميركية حول مستقبل الحرب في غزة ومستقبل السلطة الفلسطينية وموقع الفصائل منها، إضافة إلى كل الملفات الأخرى، المرتبطة بأزمة العقوبات والملف النووي مروراً بالوجود الأميركي في العراق وصولاً إلى آليات الحل على الساحتين اللبنانية والسورية.
والأخيرة، أي سوريا، شكلت المحطة الثانية في جولة عبداللهيان الدبلوماسية واللقاء الذي عقده مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي وضع في أجواء موقف طهران من الاعتداء الذي استهدف السيادة الإيرانية على الأراضي السورية، وأن تداعيات الرد الأول الإيراني قد تؤدي إلى فتح جميع الجبهات، في حال ردت إسرائيل على الرد الإيراني، وأن التصعيد اللاحق لن يكون الرد عليه مقتصراً على الجانب الإيراني بعد ذلك ستكون على عاتق كل قوى المحور بما فيها الجبهة السورية، ولعل هذا التقدير كان العامل الذي حكم اللقاء الذي عقده عبداللهيان مع رئيس الوفد الحوثي المفاوض محمد عبدالسلام في مسقط.
هذا التأرجح بين إمكانية الذهاب إلى خيار تسوية شاملة "مكتوبة" ومعلنة مع واشنطن، وبين خيار الرد، لا يلغي ضرورة وحتمية الرد نتيجة الضغوط التي تتعرض لها وتعيشها القيادة الإيرانية داخلياً ودولياً، من أجل استعادة "معادلة الردع" للحد أو وقف الاعتداءات الإسرائيلية، على رغم مما فيه من احتمالية تعرضها لخطوات تصعيدية مفتوحة على مواجهة مباشرة مع أميركا. وهي مواجهة لن تكون في مصلحة إيران والنظام، بخاصة وأن النظام لا يرغب بالدخول في "مقامرة" تجبره على وضع جميع الإنجازات التي حققها على مدى العقود الماضية على طاولة "المغامرة" التي نصبها له رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
لا شك أن القيادة الإيرانية، وبعد أن لجأت إلى إعلان موقفها التصعيدي وخيار الرد، قد تلجأ لممارسة الكثير من ضبط النفس، والعمل على تحقيق توازن بين حاجتها لاستعادة الردع والاحتفاظ بثقة حلفائها ومنع انفراط عقد المحور الذي تقوده أو زعزعته على الأقل، وبين ما يمكن أن تحققه من مصالح وتسويات في حال ذهبت إلى خيار عدم الرد. وهذا ما يبدو من تأرجح، قد يشكل مسوغاً لهذه القيادة لتمديد الوقت في تنفيذ قرار الرد، تحت عنوان الاحتفاظ بهذا الحق وحرية اختيار الزمان والمكان المناسبين.
اندبندنت عربية