شهد لبنان، في الأيام الماضية، مجموعة من الأحداث الجسام والوقائع المثيرة على أكثر من مستوى وصعيد. من خطف وقتل المسؤول القواتي في جبيل باسكال سليمان، وما رافق هذا الحدث من تداعيات ومواقف، وردود أفعال وإثارة إعلامية وسياسية وطائفية.. إلى استمرار حرب المشاغلة في الجنوب، بعنفها ونتائجها وخسائرها ووقائعها الصلبة والمثيرة.. إلى الرد الإيراني على إسرائيل وما رافقه من توقعات وتداعيات، إلى اغتيال الصرّاف اللبناني، في فيلا في قلب منطقة المتن، من قبل الموساد الإسرائيلي، حسب وزير الداخلية اللبناني، إلى أحداث أخرى مشابهة في المنطقة.. إلخ
في هذا الخضم، لم ينتبه الرأي العام، أو يتوقف، أمام الجدل السياسي المثير والمميز الذي دار بين شخصيتين مهمتين ودالتين من موقعهما في الحياة العامة والحياة السياسية اللبنانية. هما، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، الذي شغل هذا المنصب بعد والده المفتي الجعفري الممتاز التاريخي والشهير المرحوم الشيخ عبد الأمير قبلان، المشهود له بمواقفه القوية والصريحة والمفصلية والمؤثرة سابقاً.
والنائب والمسؤول القواتي السابق إيلي كيروز، الذي هو في المحصلة من أبرز الشخصيات القواتية البشرّاوية (نسبة إلى بلدة بشري)، ومن بين المقربين فكرياً ومناطقياً أكثر من غيره إلى الدكتور سمير جعجع، والأكثر انغماساً في بيئة القوات في النظريات السياسية والتاريخية المتصلة بلبنان الكيان والصيغة الحالية للحكم بين الماضي والحاضر، وهو مسؤول الإعداد الفكري في القوات.
المفتي الجعفري ألقى خطبة عيد الفطر، من على منبر مسجد الإمام الحسين التاريخي في برج البراجنة في قلب الضاحية الجنوبية الشعبي والمزدحم.
والواقع، أن نص الخطبة التي قالها المفتي الجعفري، تكاد تكون من أهم النصوص السياسية الصريحة والمباشرة والواضحة، التي تكشف لغة وخلفيات تفكير البيئة السياسية المذهبية التي يمثلها الشيخ قبلان راهناً، ويختصر جانباً كبيراً من تفكيرها ومنطقها وتطلعاتها.
قال الشيخ قبلان في سياق حديثه عن لبنان والمنطقة ومن يمثل: "انتهى الأمر بعد الاختبار بأكثرية نَكَلَت وقلةٍ قليلة تحمّلت وضحّت من أجل بلدها وناسها. وكانت هذه الفئة القليلة كافيةً لإنزال أسوأ هزيمة بعدو الله وعدو الإنسان والأوطان".
أضاف: "اللافت أن هذه الفئة لم تستأثر ولم تحتكر، بل وظّفت كل تضحياتها وإمكاناتها في سبيل بلدها وناسها ودون مِنّة".
وقال: "هذه هي قصّتنا في هذا البلد وجنوبه، الذي تحمّل أهلُه المذابح الصهيونية وموجات الإرهاب الإسرائيلي منذ العام 1948، ولم يتحمّل عنهم غيرُهم حتى الدولة اللبنانية".
يكمل المفتي الجعفري كلامه، في الخطبة المشار إليها، ليشيد بتضحيات حركة أمل وحزب الله في سبيل إنقاذ لبنان. ويتوقف بشكل خاص عند غزو العام 1982 ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى تحرير الجنوب عام 2000، بالرغم من تخلي العرب -حسب رأيه- وغيرهم عن لبنان، بعيداً عن "وكر مجلس الأمن وكذبة العدالة الأممية"، حسب تعبيره.. إلخ.
المفتي الجعفري قال كلاماً صريحاً أكثر من ذلك. إذ تطرق إلى الماضي وسرديته التاريخية المعهودة، حيث قال منتقداً: "دعونا من قصة مجد لبنان ومقولة التأسيس التاريخية، لأن تأسيس لبنان وكيانات المنطقة تمّ وفقاً لخرائط المصالح الفرنسية والبريطانية الاستعمارية، ومع ذلك لسنا ممن ينكر جهود البطريرك حويّك من جهة، سوى أن تأسيس لبنان والدولة صبَّ لصالح فئة أخذت ولم تُعطِ، وشاركت بالغُنم ولم تشارك بالغُرم إلا قليل، وحتى اليوم يعاني لبنان وأهلُه من الظلم السياسي والأساس الفئوي والإرث الطائفي، الذي حوّل الدولة والبلد إلى "علبة سردين"، وطيَّر القيمة الحقوقية للوطن والمواطن".
الشيخ قبلان في كلامه أعلن رفضه طروح الكانتونات والتقسيم وأسلوب الشحن الطائفي ليختصر كلامه بالقول: "لن نقبل بأي تسوية رئاسية تتعارض مع الملحمة الوطنية التي تقودها المقاومة على الجبهة الجنوبية. والمطلوب من شركاء الداخل ملاقاة الثنائي الوطني بتسوية رئاسية تليق بتضحيات أعظم مقاومة سيادية على الإطلاق".
هذا الكلام رد عليه في اليوم الثاني "القواتي" إبن بشري، إيلي كيروز، ليعتبر أن الطائفة الشيعية كانت مهمشة أيام السلطنة العثمانية والمماليك، ومن أنصفها ومهد لكي تأخذ دورها في لبنان هي صيغة لبنان الكبير بعد الاستقلال، مستنداً بذلك إلى كلام للشيخ محمد مهدي شمس الدين عن هذا الموضوع والقيادي الشيوعي الجنوبي كريم مروة في السياق نفسه.
عملياً، إن كلام الشيخ قبلان يشكل انتقاداً وتهجماً على صيغة حكم لبنان الكبير الذي قام على الأرجحية المارونية، فيما كلام كيروز يركز على الحرمان والتهميش الذي تعرض له الشيعة في خلال فترة الحكم العثماني وقبلها. بمعنى آخر، فإن كيروز قال للمفتي ليس الموارنة من همشكم بل حكم السلطنات السابقة العثمانية والمملوكية.. أما نحن أهل لبنان الكبير فقد أنصفناكم وأعطيناكم دوركم.. إلخ.
لكن ما غاب عن بال المفتي الجعفري والمناضل القواتي البشراوي، أن لبنان كان لجميع أطرافه. وقد صُنع بتجربته ووحدته الوطنية الناجحة على مدار عقود. إضافة إلى صيغة نظامه الدستوري المتطور نسبة إلى أنظمة المنطقة، التي غابت ولا تزال عنها الدساتير والقوانين. وهو قد يكون البلد الوحيد الذي يستند إلى تجربة عيش متعدد، مشترك، إسلامي مسيحي ناجحة في المنطقة والعالم. وهو الذي قد أعطى لأغلب مكوناته، فترات ازدهار وراحة صنعت منه درة متألقة على شاطىء المتوسط، واحتوى على صيغة مميزة كانت قدوة لدول ومجتمعات عديدة، سرعان ما دمرتها صراعات المنطقة والقوى المسيطرة والأحقاد ولم تنصفها نتائج الصراعات.
الطرفان لم يفكرا أنه بالإمكان استعادة هذا التألق والازدهار أو قسم منه، إذا ما قدر الشعب اللبناني أهمية ما كان لديه من تجربة الماضي، وأهمية ما يمكن أن يتطور في الآتي من الأيام إذا ما تمت حمايته وتطبيقه في المستقبل.
التبياين واضح بين الخطين، والمنطقين. الأول، الذي يندد بصيغة لبنان الكبير التي ولدت على يد الاستعمار ويروج لصيغة المقاومة الزاهرة والمستحكمة الآن. والثاني، الذي لا يزال مرتبكاً إزاء هواجس الماضي بين مفهومي الذمية والأقلية المضطهدة. لكن ما جمعهما إضافة إلى السجال والتنافر، ابتعادهما عن الإشارة أو الانتباه إلى أهمية نظام لبنان البرلماني الديمقراطي والدستوري، وضرورة الالتزام بتقاليد حكم القانون والمؤسسات لحماية مواطنيه كل مواطنيه لا طوائفه. وصيغة عيشه ضمن اتفاق أجمع عليه الشعب اللبناني بكل مكوناته. وهو أمر ليس موجوداً في مكان آخر في المحيط القريب، المنصرف والمقبل على التدهور والتفكك.