من خلال استخدامه الأسلحة النارية للقضاء على تهديد إرهابي، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي عن الخلل المميت في حربه على حركة "حماس"
لا يمكن للأمم المتحدة أو المحاكم الدولية أو أوروبا أو حتى الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً لكبح جماح بنيامين نتنياهو، بل أن مفتاح الحل الوحيد لوقف هذه الحرب هو بيد الشعب الإسرائيلي نفسه
على الأقل لم يطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على اللاجئين الـ 50 صفة "إرهابيين". إلا أن وصفه للغارة الجوية الإسرائيلية التي أحرقت هؤلاء حتى الموت - ومعظمهم من النساء والأطفال - باعتبارها "حادثاً مأسَوياً مؤسفاً"، يشكل بالمقدار نفسه إهانةً قاسيةً للضحايا الأبرياء.
إذا كان الهدف من اللغة هو إيصال المعنى، فإننا جميعاً ندرك طبيعة المشاعر الكامنة وراء هذه العبارة النثرية. فرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، حتى لو كان يرغب في أن يُنظر إليه في بلاده ومن جانب أعدائها والعالم، على أنه أحد أفراد سلالة الجيل الجديد من القادة الأقوياء العالميين، يجب أن يمتنع عن التحدث على هذا النحو. إنها طريقة مروعة للموت، لكن كثيرين غيرهم في الواقع - قرابة 36 ألف شخص - لقوا حتفهم في قطاع غزة حتى الآن في ظروفٍ مماثلة يُرثى لها، منذ أن شن نتنياهو حربه الكارثية قبل ما يقرب من ثمانية أشهر.
كم من الناس سيموتون، أو يصبحون مقعدين، أو يصيرون أيتاماً أو جوعى أو يُعانون من صدمة، عندما ينتهي من عمليته؟ يبدو أن الأمر لا يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة إليه، حتى لو كان بعض المتضررين هم من الرهائن الإسرائيليين. وقد بات من الواضح بشكلٍ صارخ - سواء من خلال أقوال نتنياهو أو أفعاله - أن حياة الفلسطينيين لا تهمه (ليس أن الأمر كان مدعاة شك). إن رؤية صور تلك الخيَم وهي تحترق، تعني بوضوح أن ما نحن أمامه لا يقل عن جريمة حرب.
اللازمة المعتادة التي تكررت مراراً، تتلخص بأن إسرائيل تتخذ من جانبها "جميع الاحتياطات الممكنة" لحماية المدنيين المحاصرين وسط القتال الدائر في قطاع غزة، وبأن "قوات الدفاع الإسرائيلية" تبذل "أقصى جهودها لعدم إلحاق أذى بالأفراد غير المشاركين" في الصراع. إنها ترجمةُ أخرى للمصطلح المستخدم في إسناد ما يحصل إلى "الأضرار الجانبية"، أو "الحوادث السيئة التي تقع في الحرب".
عندما تعترض دول الغرب على ما يحدث، يجري تذكيرها بالفظائع التي ارتُكبت في كل مدينتي هيروشيما اليابانية ودريسدن الألمانية خلال معارك الماضي مع الشر. لكن حتى لو كانت تلك التصرفات مبررة، فهذا لا يعني أن ما أمر به بنيامين نتنياهو هو أيضاً عمل مبرر أو أمر حتمي لا مفر منه.
والحقيقة هي أنه بعدما ارتكبت حركة "حماس" فظائعها الاستفزازية والمتعمدة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، خاضت إسرائيل وما زالت حرباً غير عادلة باستخدام أسلحةٍ غير مناسبة، الأمر الذي صب في النهاية مباشرةً في مصلحة "حماس".
كان من المحتم وقوع خسائر فادحة بسبب النقص في المساعدات والمياه والأدوية، وقطع إمداداتها عن غزة، إلى جانب القصف الجوي المستمر الذي دمر نصف عدد المباني في القطاع ومجمل البنية التحتية تقريبا. لكن الأنقاض تمثل في الواقع غطاءً فعالاً للمقاتلين، في حين أن الدبابات والقذائف الإسرائيلية لن تكون قادرة على اختراق جميع مخابئ الإرهابيين. كما أن "حماس" لا تبدي اهتماماً كبيراً بالخسائر البشرية في صفوف الفلسطينيين، ولا تتأثر بالضغوط الداخلية. والحقيقة هي أن بعض الفلسطينيين قد ينظرون إلى الحركة باعتبارها المدافع الوحيد عنهم في عالمٍ يدير ظهره لهم. فهل يمكن لأحد أن يشكك في أن إسرائيل نجحت في تشكيل كتائب جديدة من شباب غزة المستعدين للانتقام لقتلاهم؟
الآن يجد بنيامين نتنياهو نفسه واقعاً في فخ نصبه بنفسه، ويتمثل في محاولة استخدام القوة الساحقة من الأسلحة النارية للقضاء على تهديد إرهابي. من الواضح أن هذا النهج أثبت عدم فعاليته. فالحرب غير المتكافئة، كما يُطلق عليها، قد أحبطت جميع القوى العظمى في العالم.
ولو حققت استراتيجية رئيس الوزراء الإسرائيلي فعلاً أهدافها، فإن "المحكمة الجنائية الدولية" لما كانت بصدد إعداد أوامر اعتقال في حق قادة حركة "حماس" الذين ما زالوا طلقاء حتى الآن. وبدا واضحاً أن تدمير مدينة رفح هو وسيلة بدائية وغير فعالة لمحاولة اغتيال هؤلاء الأفراد، أو حتى تقديمهم للعدالة بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها.
كل ما يمكن قوله عن المستقبل القريب هو أن هذا الصراع لن ينتهي في المدى المنظور، حتى لو تمت ربما تسوية مباني رفح بالأرض. وعندما لا يتبقى شيء يمكن قصفه، ولا يوجد مكان يأوي إليه سكان غزة، فإن هذه الحرب لن تحط أوزارها، بل ستكون فقط قد أكملت مرحلتها الأولى.
من الناحية الواقعية، لا يمكن للأمم المتحدة، أو المحاكم الدولية، أو أوروبا، أو حتى الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً لكبح جماح بنيامين نتنياهو. ومن غير المرجح أن تواجه إسرائيل عواقب تتجاوز مجرد انقطاع طفيف في إمدادات القنابل الكبيرة أميركية الصنع إليها، وتعابير الاستنكار من جانب الرئيس الأميركي ووزير خارجيته. نتنياهو ينظر إلى المحاكم الدولية بازدراء، ولا يثير وزير الخارجية البريطاني اللورد ديفيد كاميرون إعجابه كثيراً. ولن يعاني في المقابل من أرق نتيجة اعتراف كل من جمهورية إيرلندا والنرويج وإسبانيا بالدولة الفلسطينية. كما أنه لن يشعر بقلق كبير من نتيجة الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي، الذي خُصص لمناقشة قصف رفح.
وستبقى الأمور الأساسية من دون تغيير. فلن تعاني إسرائيل من حظر الأسلحة ومنعها من الوصول إليها، لأن الولايات المتحدة وألمانيا، الموردتين الرئيسيتين، لن تفرضا هذا الحظر أبداً، ونتنياهو يدرك ذلك (وهو يعلم أيضاً أنه يستطيع الاعتماد على دونالد ترمب إذا ما لعب الحظ في مصلحته وعاد إلى البيت الأبيض). ويمتلك رئيس الوزراء الإسرائيلي مخزوناً وافراً من الأسلحة وطرقاً بديلة للحصول على معداتٍ جديدة لمواصلة الحرب التي يقوم بها. ولا يتطلب الأمر في الواقع الكثير من الذخائر لتحويل قريةٍ أو مستشفى إلى أنقاض.
أحد الرؤساء الأميركيين قال في أحد الأيام عن الحرب القاسية التي كانت تخوضها بلاده في جنوب شرقي آسيا، "فيتنام الشمالية لا تستطيع هزيمة الولايات المتحدة، فالأميركيون وحدهم هم الذين يستطيعون القيام بذلك". وقد كان محقاً إلى حد ما، لأنه في نهاية المطاف، كانت الضغوط السياسية الشعبية التي مارسها الشعب الأميركي هي التي أنهت حرب فيتنام قبل نحو نصفٍ قرن من الزمن، الأمر الذي أدى إلى عودة القوات وغالبية أسرى الحرب الأميركيين إلى وطنهم.
الأمر نفسه ينطبق على إسرائيل. ففي مرحلةٍ ما، سيتعين على الشعب الإسرائيلي وممثليه في الكنيست (البرلمان) والحكومة، أن يمنعوا بنيامين نتنياهو من جر بلادهم إلى ما تسميه إحدى منظمات حقوق الإنسان التابعة لهم "الهاوية الأخلاقية"، ما يجعلها بلاداً غير آمنة أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخها، وذات صداقاتٍ أقل بشكلٍ متزايد، ومعزولة في منطقةٍ معادية وغير مستقرة.
وإلى أن يحدث ذلك، سنبقى نحن في حال انتظار، فيما يستمر الفلسطينيون في معاناتهم.