صراع الديوك في ديوان الملوك

للمرة الثالثة على التوالي في أقل من سنة، تمكّن رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، من إعادة تسليط الأضواء عليه وعلى نفسه وتحركه ومواقفه، منذ مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا ونشوب أزمة الفراغ الرئاسي.

أساس هذا التحرك، اليقين، أنه ما من طرف في الجمهورية البالية قادر بعينه ولوحده، على حيازة الأكثرية النيابية واتخاذ القرار بمفرده في مجلس النواب، وإيصال أو انتخاب من يريد. بل هناك حاجة في أي أمر لتحالفات وتفاهمات وتقاربات ومبادلات مع آخرين، لجمع أكبر كمية من الأصوات لدى النواب، لتشكيل قوة ضغط من أجل الفوز أو الاقتراب منه أو زيادة الضغط وتنفيذ المناورات.

في كل مرة، ونتيجة لحالة نفسية خاصة، وعندما ينتابه الإحساس أن الساحة السياسية راكدة والأضواء بعيدة عنه، ينطلق في جولة على القوى السياسية بهدفين اثنين:

الأول للقول أو التلويح، إني ما زلت متواجداً بفاعلية على الساحة، ولدي طروحات، وأنا جاهز للتفاهم والمبادلة والتفاوض على المواضيع المطروحة والمثارة.

والهدف الثاني اليوم، بعد التعب وشبه الفشل الذي أصاب اللجنة الخماسية، وقبل دخول المنطقة في مرحلة جديدة، محاولة التسجيل على الطرف الخصم أي رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع على وجه الخصوص، بعد ارتفاع منسوب التوتر والنقار والتباعد بين الأخير وبين رئيس مجلس النواب نبيه برّي .

بمعنى آخر، عرض نفسه وكتلته كقوة قادرة على الترجيح وتعديل الموازين، ويجب أن يحسب لها حساب. هذا ما أوضحه في ندوته الصحافية نهاية الجولة. فهو يحاول تقديم نفسه وكتلته قوة وسطية مرجحة، ونقطة توازن بين الأطراف، أو كما اصطلح على القول: إحدى بيضات القبان.

وجد باسيل، المتحفز دائماً والمتربص لاصطياد الفرص، أن الظروف مناسبة للقفز إلى ساحة الأضواء وحصد ما يمكن حصده، من بعض المراعاة والإطراء و"الزكزكات" لغريمه جعجع، بالتقرب في هذه اللحظة من برّي المتأزمة علاقته مع الأخير. وفي أثناء الطريق، يعيد تجميع وتقطير وتسول بعض الرضى من جانب حزب الله المنزعج من انتقادات باسيل للمشاغلة على الحدود، والتي سبق أن جاهر بها أكثر من مرة، ولم تجد من يشتريها أو يبيعها من الأطرا ف المحلية أو الخارجية.

وصل التعجّل المتوتر بباسيل أنه انطلق في مسعاه وقبل أن ينتهي "اللقاء الديمقراطي" من جولته على القوى السياسية.

كان من الطبييعي والمتوقع، أن ينتظر باسيل نهاية جولة اللقاء الديمقراطي، ليرى نتائجها ويبني عليها، في حال أن مسعاه هادف للإيجابية. لكنه بسبب شعوره المبالغ بالوحدة والعزل وبالذاتية المفرطة وتوتره المرتفع، قفز إلى الساحة وتيمور جنبلاط لا يزال في بداية تحركه وجولته واجتماعاته، وبالرغم من أن الموضوع المطروح هو موضوع واحد وليس موضوعين.

كادت الوفود، أن تتضارب فيما بينها في بعض الأحيان، وأن تقفل الطرق على بعضها من تعجل باسيل وتوتره، للانطلاق لإتمام جولته. مع أنه قال إن جولته بالتنسيق مع الاشتراكي. وهذا لم يحصل.

بالغ باسيل هذه المرة في اتباع "الزحفطونية" تجاه برّي، وسلّفه مجموعة من المواقف، مطيحاً بالدستور والنظام والقوانين. وبعد أن كان اتهم الأخير بالبلطجية والتشبيح، وضع هذه المرة الدستور والمبادىء جانباً، ومال لتبني ما يمكن اعتباره بالعهر الدستوري والسياسي صراحة، قائلاً بوقاحة ما بعدها وقاحة، "التفاهم أهم من الانتخاب"! سواء كان ذلك بالحوار أو التشاور، وكل الهدف في هذا الشطط المبتكر، أن يحاول عزل القوات اللبنانية، ولإظهار سمير جعجع أنه العقبة والمعرقل والمنافح والعقدة بوجه طروحات برّي و"الثنائي الوطني".

وصل الأمر بباسيل الذي خرب البلاد وعطل عدة مشاريع، من أجل رفض التشريع راهناً في ظل غياب رئيس الجمهورية، أن باع كل مواقفه قائلاً: "تطرّقت مع برّي إلى موضوع التشريعات الضرورية وطلبتُ منه عقد جلسة خاصة بشأن القوانين المتعلقة بالنازحين"!

"أفّ"، أين المواقف السابقة الرافضة للتشريع في ظل الفراغ الرئاسي؟!

في الواقع، إن تصرف رئيس التيار الوطني الحر، لم يسبق أن تصرف أحد مثله بين ملوك الطوائف اللبنانية، عبر اتباع وإشهار الابتزاز والمساومة و"النطنطة" بين المواقف والتشاطر. وكل ذلك نكاية بخصمه وغريمه جعجع، الذي نجح حتى الآن في الظهور بمظهر المتمسك الوحيد بأحكام الدستور، التي تقول بأن مجلس النواب مجبر على انتخاب رئيس الجمهورية، بدورات متتالية وفقاً للأكثرية والأقلية والنظام البرلماني الديمقراطي.

المفارقة، أن الاتهامات التي كان يسوقها باسيل لجعجع، أنه خارج باستمرار عن الدولة ويتصرف بطريقة ميلشياوية وابتزازية، سارع هو ليثبت أنه شيخ شبيحة السياسة والمبتزين ولعيبة البالوتاج، وترك لجعجع موقع المدافع عن الدستور والقوانين والأعراف الدستورية والانتظام المؤسساتي. وكل ذلك طمعاً برضى غريمه السابق نبيه برّي، الذي سبق أن حمّله وعمه مسؤولية فشل عهده الميمون، حيث أُتهم برّي يومها أنه هو الذي وقف خلف فشل بناء الدولة، كما كان يدّعي. لكنه اليوم لم يتورع في منحه بفجور غير مسبوق، موافقة على بياض، بأن التفاهم أساس النجاح، لا الانتخاب الذي نص عليه الدستور! بل ابتدع مقاربة يقول فيها إن ما هو مقترح من أفكار للتشاور والتحرك والحوار قبل النزول إلى المجلس، لن يكون عرفاً!

وكل ذلك، من أجل النكاية والمفاخرة والمزاركة الممجوجة والفارغة على زعامة البيئة المسيحية، والطائفة. وكأن الانتخابات النيابية واقعة غداً، فيما الجمهورية تغرق كل يوم نزولاً في رمال ازمة المنطقة المتسعة والمتشعبة والملتهبة.

المدن

يقرأون الآن