تفاوض إسرائيل عبر الوسطاء على جبهتين، جبهة غزة وجبهة "حزب الله". وفي غزة تطرح إنهاء حركة "حماس" وتفاوضها، وفي لبنان تفاوض "حزب الله" لإنهاء وجوده التهديدي لأمن مستوطنيها.
ووسطاء غزة ثلاثي ثابت قوامه أميركا ومصر وقطر. ووسطاء لبنان ثلاثي آخر يضم إلى أميركا كلاً من فرنسا والاستخبارات الألمانية.
ويعمل الوسطاء منذ أشهر ومع ذلك لم يحصل التقدم المفترض نحو تسوية توقف الحرب وفروعها المتناسلة. وآخر المقترحات الأشد وضوحاً عرضها الرئيس الأميركي جو بايدن نهاية شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك المقترحات قالت الحكومة الإسرائيلية إنها من صنعها وتبناها مجلس الأمن الدولي في قرار، قبل أن يستأنف الحوار التفصيلي حولها وتعلن "حماس" جوابها عليها قبل أكثر من أسبوع، لتعود إسرائيل وترسل مدير "الموساد" إلى الدوحة ثم يعود للحديث عن استئناف التفاوض بعد أيام.
والبحث كما يقال في إسرائيل وفي أوساط "حماس" يدور حول "المرحلة الثانية" من خطة بايدن. ورد "حماس" الأخير على عرض الوسطاء الذي تسلمته إسرائيل أثار كما ذكرت صحيفة "هآرتس" خلافاً "كبيراً بين بنيامين نتنياهو ورؤساء أجهزة الأمن ووزير الدفاع يوآف غالانت، الذين يعدون أن هناك فرصة لتسجيل اختراق في المفاوضات". ونتنياهو يقيس فائدته الشخصية من الصفقة. فهو إذا ذهب إلى التوقيع سيخاطر بسقوط حكومته وفرطها تحت ضغط وزرائه "المتطرفين" مما يفرض عليه الذهاب إلى انتخابات مبكرة ومستقبل غامض، وعدم التوقيع على الصفقة سيعني استمرار الحرب وربما مقتل من تبقى من أسرى إسرائيليين في غزة والمخاطرة في الوقت نفسه بانفجار كبير مع "حزب الله" في لبنان.
وأمام احتمالين من النوع المذكور تتابع إسرائيل السير في المخطط الأساس الأبعد مدى وهو مخطط السيطرة التامة على الأرض الفلسطينية في غزة والضفة، والعمل على ضبطها وتهويدها قمعاً وضماً واستيطاناً، ونسف أي مشروع لاحق لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وخلال تسعة أشهر من الحرب سيطرت إسرائيل مباشرة على 26 في المئة من أراضي القطاع (بعد اجتياحه وتدميره). ويقول تحقيق صحافي نشرته "هآرتس" حول الموضوع إنه "يدور حديث عن جهد لاحتلال طويل" عبر "استئناف الاستيطان اليهودي في القطاع". وفي الضفة تتحدث صحيفة "إسرائيل اليوم" عن "خطة استراتيجية يبادر إليها الوزير بتسلئيل سموتريتش من خلال مديرية الاستيطان التي أقامها هدفها منع إقامة دولة فلسطينية، والمستوطنات الخمس التي أقرت للبناء الأسبوع الماضي في الحكومة هي خطوة أولى في خطة تستهدف منع تواصل إقليمي للفلسطينيين في الضفة".
ولا تدخل هذه "التفاصيل" المصيرية في صلب التفاوض بين "حماس" التي ترغب بإنقاذ رأسها وإسرائيل التي تمضي في مشروعها الأصلي، الذي لا يعترف بالحقوق البديهية للشعب الفلسطيني. ففي مفاوضات الدوحة لا مكان لغير الأسرى ومصير "حماس" في القطاع!
وعلى الجبهة "اللبنانية" يربط "حزب الله" نفسه بمصير هذا التفاوض الذي يتم إرجاء جلساته ونتائجه المرة تلو الأخرى. وتفاوض إسرائيل "حزب الله" مع أنها تريد إنهاءه تماماً مثلما تقول عن "حماس". والمبعوثون الأميركيون والفرنسيون وأخيراً الألمان يطرحون فكرة تكاد تكون وحيدة وهي إبعاد مسلحي الحزب عن حدود المستوطنات الإسرائيلية الشمالية مع وعد بالسير في تثبيت الحدود اللبنانية الجنوبية. لكن ذلك لا يناسب "حزب الله" ولا يدخل في منطق انخراطه في الحرب الذي لا تحكمه في الأساس مصلحة لبنانية بحتة، والذي تبين من حيث النتائج أنه لم يخدم النضال الفلسطيني في تحقيق أي مكسب.
وكان يمكن لـ"حزب الله" الذي بنى مبررات وجوده على تحرير ما تبقى من أرض لبنانية محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أن يواكب "طوفان الأقصى" بعملية خاطفة تستعيد تلك الأراضي، بكلفة أقل بكثير مما دفعه في حرب الاستنزاف القائمة تنتهي بتحقيق انتصار وتثبيت الحدود التاريخية للبنان، لكن ذلك كان سيفرض عليه إنهاء دوره المسلح وهذا هو عملياً العرض الذي ينقله إليه الوسطاء من دون أن يؤخذ دوره في حرب غزة بعين الاعتبار، ومن دون أن يجد له سنداً في الداخل اللبناني الذي كان سيكون له موقف آخر لو خاض معركته تحت شعار استرداد الأراضي اللبنانية المحتلة.
وفي السياق الراهن للحرب والمفاوضات يصعب توقع تغيير في سلوك حكومة نتنياهو يقود إلى نتائج حاسمة في شأن وقف للنار في غزة، ينعكس مباشرة على جبهة "حزب الله" وباقي جبهات محور الممانعة. ويصعب توقع تغيير في أدبيات المحور الذي يقاتل إسرائيل من لبنان وفي غزة. والجديد في الموقف كان تهديد إيران بالتدخل المباشر في حال هاجمت إسرائيل "حزب الله" في عملية كبرى. إيران لم تتخذ مثل هذا الموقف بعد أن هاجمت إسرائيل غزة وأبادتها. وموقفها يكشف أولوياتها في الحفاظ على "حزب الله" وليس فلسطين. فلسطين بهذا المعنى تحتل مرتبة مزارع شبعا الإيرانية. إذا تذكرنا أن المزارع كانت مبرراً لاستمرار سلاح "حزب الله"!
ويقول محللون إسرائيليون إن المناظرة الأخيرة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه الرئاسي دونالد ترمب أحيت في نفوس المتطرفين الإسرائيليين الآمال بعودة ترمب إلى الرئاسة، واحتمال أن يكون أكثر حزماً في تبني الرؤى الإسرائيلية. إذا صح مثل هذا الرهان فإن لا شيء يضمن الهدوء في فلسطين أو جنوب لبنان من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية الأميركية خلال الخريف المقبل، وحتى ذلك الحين ليس غريباً أن تستمر حال التوتر الشديد والصدام والقتل، هذا إذا لم تتطور الأمور إلى انفجارات أشمل.