إنه أسوأ أنواع الاغتيال وأشدها فتكًا فهو يسعى لتدمير الذات وتحطيم المعنويات حاملاً تأثيرات سلبية على الكيان الإنسانى المستهدف، والاغتيال المعنوى ليس جديدًا على الإنسان بل هو قديم مرتبط بالصراع الأبدى بين البشر من أجل المنافع العاجلة أو المزايا المرتقبة، وقد برعت أجهزة متخصصة فى دول مختلفة من قارات العالم فى توجيه سمومها إلى صدور من يستهدفون، وذلك بتشويه السمعة وانتقاء الصفات السيئة للطرف الآخر وإظهارها بغرض التشهير به وتسليط الضوء على سلبياته وإنكار إيجابياته فى مجافاة واضحة للواقع والحقيقة وابتعاد كامل عن الموضوعية والحياد الأخلاقى، ولقد أسهمت التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعى فى تمكين أعداد هائلة من المتابعين للخبر الواحد من التركيز على ذلك النوع من الأخبار وتضخيمها على النحو الذى يثير القارئ أو المشاهد ويدفع بصاحبه فورًا إلى صدارة (الترند) وبذلك نصبح أمام معركة غير متكافئة بل وربما أقرب ما تكون إلى حوار من طرف واحد، ولقد كان من نتائج ذلك بالضرورة التمكين لفئة قليلة من السيطرة على عقول أعداد هائلة ممن تستهويهم الإثارة والتلصص على أخبار الآخرين وأسرارهم والمبالغة الزائدة عند نقل الخبر وترديده ونشر الشائعات والترويج لها، وما أكثر الأحداث المؤسفة التى قد يكون أبطالها شرفاء ولكن يد الاغتيال المعنوى تطالهم، ولقد تابعت شخصيًا على امتداد سنوات عمرى قدرة بعض النظم والمؤسسات فى الدول المختلفة على توجيه سهامها لأفراد أو لهيئات تقف على الطرف الآخر تترقب ما يحدث وتتهيأ للرد وتنتهى إلى ترويج بضاعة قد تكون فاسدة فى ظل مستنقعاتٍ آسنة تطفح بالحقد والكراهية وتوجه خطابًا سلبيًا لكل الأطراف وتمارس دورها فى الترغيب والترهيب والهبوط بالطرف الآخر إلى الدرك الأسفل، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولاً: إن الإعلام المعاصر يملك اليوم أدوات لم تكن متاحة من قبل ويستطيع من خلالها رسم صورة معينة لأشخاص بذاتهم وتحطيم أفكار بعينها، وما أكثر ما رأينا انطفاء الأنوار وخفوت الأضواء من حول شخص بذاته أو جماعة مستهدفة حتى يدرك الجميع أنه أصبح منبوذًا من الكافة ومغضوبًا عليه من الأغلب الأعم فيهم، والويل كل الويل لمن يجرؤ على اقتحام النيران المشتعلة حتى لو بدت فى ظاهرها نيرانًا صديقة.
ثانيًا: إن استعداء المؤسسات الرسمية فى أى مجتمع لشخصٍ بعينه يجعل دمه مباحًا وفكره ساقطًا وشرعيته ناقصة، والأسى كل الأسى لمن يقف ضد التيار، خصوصًا إذا كان على حق فلا يجد من يستمع إليه أو يتفهم وجهة نظره على اعتبار أن محكمة الرأى العام قد أصدرت قرارها الذى لا رجعة فيه خصوصًا أنهم قالوا قديمًا (إن طلقة الرصاص التى لا تصيب تزعج فى كل الأحوال) وفى كثير من هذه الحالات لا يجرى الاحتكام إلى العقل ويندفع الكافة وراء الخبر دون بصيرة أو تدقيق، عندئذ يختفى العدل وتتوارى الحكمة وتتوالى الضربات الطائشة لمن يستحق ومن لا يستحق.
ثالثًا: يتفنن أهل السوء فى تلفيق التهم وتشويه الصورة خصوصًا للمغادرين لمواقعهم والراحلين عن سلطاتهم وكأنما كتب علينا أن نستقبل وألا نودع، وأن نحمل المباخر للقادمين وأن نوزع اللعنات على الذاهبين! وهو للأسف تقليد موروث فى كثير من المجتمعات التى لا تدرك حدود الموضوعية وأطر العدالة ويستهويها الصراخ واللوم فى كل من يجب أن تودعه بما يستحقه فى عدالة وتوازن وشرف، ولقد تبوأت شخصيًا كثيرًا من المواقع ووجدت أن أكثر الناس قربًا منى من المسرفين فى تكرار المديح لى كانوا هم الأكثر بعدًا عندما رحلت، وأخطرهم سمومًا وتزييفًا للحقائق وقديمًا قيل (احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة، فربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة) والنفاق داءٌ إذا استبد بأمة يكاد يعصف بها وإذا انتشر فى مجتمع أحاله إلى كتلة من الأكاذيب والأراجيف والافتراءات.
رابعًا: إن كلمة التنمر تعبير جديد وفد على الاستعمال اليومى، وفى ظنى أن التنمر فى أسوأ حالاته هو ذلك الذى يسعى الناس من خلاله إلى تدمير شخصية معينة أو القيام بعملية اغتيال معنوى لفرد بذاته، وليضع كل منا نفسه فى موقع ذلك الهدف الذى نصوب إليه رمى الجمرات ونرى فيه أنه الشيطان الرجيم لكى ندرك مخاطر ذلك القتل المعنوى له ولأسرته وللدائرة الضيقة المحيطة به بدلاً من الاحتكام إلى سيادة القانون وميزان العدالة وترك جهات التحقيق تأخذ مجراها دون تشويش من الرأى العام أو طنين من أصحاب المصالح أو المنتظرين للمكاسب الزائفة فى ظل ظروفٍ يعلم الجميع المخاطر التى تحملها والتعقيدات التى تحيط بها.
هذه كلمات مخلصة مجردة من الشخوص والأهواء ولكنها تسعى فقط إلى تطهير القلوب وتنقية الأجواء إذ إن الاغتيال المعنوى قد شاع فى حياتنا المعاصرة وأصبح له أكثر من وجه وطريقة، وأنا شخصيًا عندما توليت كل موقع كنت حريصًا على الدفاع عن سلفى ومن سبقنى فى توقير واحترام وعدالة، لأننى أؤمن أنه كما تدين تدان ولا قيمة للصراخ فى وجه من ذهبت عنهم السلطة والافتراء عليهم دون وازع من ضمير أو رادع من أخلاق!
الأهرام