لماذا الآن؟.. ولماذا فى طهران؟

اغتيال رئيس المكتب السياسى لحماس ورئيس الوزراء الفلسطينى السابق "إسماعيل هنية " ليس مفاجئًا ولا غريبًا على الحكومة الإسرائيلية. التخلص من الأشخاص المناوئين والذين يعترضون الطموحات الإسرائيلية أسلوب قديم يعود إلى ما قبل قيام الدولة العبرية، اغتيال لورد موين فى القاهرة أثناء الحرب العالمية الثانية نموذجًا، كان موين يعد تقريرًا عما يجرى على أرض فلسطين وأظهر عدم انحياز للنشاط الصهيونى فى فلسطين، فأرسلوا خلفه من قام بتصفيته هنا فى الزمالك.

وبات معروفًا- الآن- أنهم أرسلوا خلية من الموساد إلى القاهرة بعد انتهاء حرب ٤٨، لاغتيال الملك فاروق، لأنه اتخذ قرار الحرب عليهم. صحيح أن الأحداث سبقت تلك الخلية، حيث تنازل الملك عن العرش وغادر مصر يوم ٢٦ يوليو ٥٢، لكن ظلت الخلية كامنة، حتى تحركت فى سنة ١٩٥٤، ضد المنشآت الأمريكية فى مصر وكُشف أمرها، فيما عُرف تاريخيًّا باسم "العملية سوزانا" أو "فضيحة لافون".

بعد حرب ٤٨ أيضًا وعقد الهدنة الأولى فى العام التالى كانوا وراء اغتيال الزعيم اللبنانى رياض الصلح فى بيروت، كانوا وما زالوا يتحركون فى كل الجبهات. هذا فيما يتعلق بالعمليات التى كُشف عنها النقاب، فما بالنا بما لا يزال فى دائرة السرية والتكتم وهو كثير.

أما اغتيال الشخصيات والرموز الفلسطينية فقد حدث ذلك كثيرًا، ياسر عرفات ومن قبله خليل الوزير "أبوجهاد "نموذجًا، وهكذا فإن اغتيال هنية ومرافقه ليس غريبًا عليهم ولا ينبغى أن يكون مفاجئًا لمن يتابع القضية الفلسطينية.

ولدى إسرائيل نشاط زائد فى جمع المعلومات، حتى ما يبدو منها بسيطًا للغاية ولا يحمل طابعًا سياسيًا أو عسكريًا. يمكن ألا تكون المعلومة مفيدة لهم بشكلٍ مباشر، لكنها قد تقوم ببيعها أو الاستفادة بها فى صفقة ما، مثل معلومة خطاب الرئيس السوفيتى "خروتشوف" فى مؤتمر الحزب الشيوعى والذى ندد فيه بفظائع سلفه "جوزيف ستالين"، كان الخطاب سريًّا وكان مهمًّا جدًّا للمخابرات والإدارة الأمريكية، حصلت إسرائيل عليه من عاملة الآلة الكاتبة، التى قامت بكتابته، وقاموا بتقديمه هدية غالية إلى البيت الابيض.

ويمكن أن تكون المعلومة رسالة لكسر الروح المعنوية وهز الثقة بالنفس، كما حدث مع مصر، أيام حرب الاستنزاف، حين أعلنت الإذاعة الإسرائيلية ذات صباح أسئلة امتحان الثانوية العامة فى إحدى المواد بمجرد توزيع ورقة الأسئلة بما أدى إلى إعادة الامتحان فى المادة وإثارة قلق رجال الدولة بدءًا بالرئيس جمال عبدالناصر نفسه، وليتنا نتذكر أن إسرائيل سبقت الإذاعة السورية نفسها فى إعلان خبر وفاة الرئيس حافظ الأسد، ولما سألت "جريدة الأهرام"، العماد مصطفى طلاس، رفيق الأسد والرجل القوى فى النظام، عن هذا الأمر، قال ان إسرائيل لاحظت يومها كثرة وسرعة الدخول والخروج من مقر إقامة الرئيس فاستنتجوا ذلك وسألوه- هو شخصيًا- عبر السفير الأمريكى فى دمشق وكان جارًا ومقربًا من طلاس.

ليس معنى هذا أن اسرائيل دولة خارقة فى المعلومات ولا أنها محصنة ضد الاختراق والدليل عملية العبور العظيم وتحطيم خط بارليف فى أكتوبر ١٩٧٣.

فى أول مواجهة بين حماس والجيش الإسرائيلى، كان هنية فى غزة وتردد فى بعض الصحف الإسرائيلية وقتها أن القائد الميدانى للعملية طلب الإذن بإلقاء القبض عليه أو هدم البيت على رؤوس من فيه، لكن طلبه رُفض بشدة.

فى المواجهة الحالية، بدا أن هنية صار زعيمًا سياسيًا، براجماتيًا، وصار وجهًا مقبولًا جدًّا لدى الطرفين المصرى والقطرى، ومن خلالهما صار مسموعًا فى واشنطن وربما الأمم المتحدة، والأهم من ذلك أنه جاد فى التفاوض وإنهاء الأزمة، مؤخرًا صدر عنه تصريح يفيد بالقبول بحل الدولتين، حتى قبل يوم السابع من أكتوبر حاول أن يقدم خطابًا تصالحيًا مع دول المنطقة، خاصة مصر والمصريين وكذا مع المملكة العربية السعودية، لنراجع مثلًا تصريحاته فى لقاء سابق مع "المصرى اليوم"، حين أكد وألح على أن حماس "حركة تحرر وطنى"، ثم أضاف "بمرجعية إسلامية"، وأكد فى ذلك اللقاء أن تحرير فلسطين كل همهم ولا ارتباط لهم خارجها، حاول جادًا فى السنوات الأخيرة أن يقدم خطابًا يوائم بين الروح والفكرة الوطنية من جانب والقيم الإسلامية، الحق أنه لا تضاد بينهما، دعك الآن من مدى نجاحه فى ذلك ومدى تقبل الآخرين لتلك المحاولة على الجانبين، دعنا كذلك من شكوك البعض فيه واتهامه هو وحركته بالمشاركة فى عمليات الفوضى والتخريب فى مصر يوم ٢٨ يناير ٢٠١١، فى النهاية حاول أن يكون متصالحًا وركز على القضية الفلسطينية، أظن أنه استوعب جيدًا دلالات فشل تجربة مكتب المقطم فى مصر ورفض المصريين الكاسح لتلك التجربة البائسة. استُقبل على أرفع المستويات فى جهاز المعلومات، وجاءت كارثة الاجتياح الأخير لغزة وأذابت الكثير وصار وجهًا مقبولًا وفاعلًا.

مثل هذا النموذج يحرج إسرائيل ولا تريده، هى تفضل نموذج "السنوار"، الذى يحيى داخلهم مشاعر وذكريات المحرقة، فتتحول القضية من أرض محتلة وشعب فلسطين المهدد بالإبادة إلى معاداة السامية وما إلى ذلك.

نموذج الراحل إسماعيل هنية لا يرضى كذلك الصقور داخل حماس وغيرها، أصحاب مقولة "سوف نحرق الأخضر واليابس"، لذا لم يكن غريبًا أن يصر "يحيى السينوار" على إحراجه فى المفاوضات، بعد أن يتفق بجهد وعناء على أمور ومواضيع بعينها يرفضها "يحيى السنوار" بكلمة واحدة، وفق التعبير المصرى "مايتنهاش".

ولم يعد سرًا- الآن- أن هجوم حماس فجر السابع من أكتوبر تم دون الرجوع إلى قيادات الخارج، خاصة رئيس المكتب السياسى إسماعيل هنية، ولم يعد سرًا كذلك أن مقولات التهكم على قيادات الخارج، خاصة بخصوصه هو، صدرت من صقور الداخل، مقولات مثل الإقامة والحياة المرفهة فى فنادق السبع نجوم بين اسطنبول والدوحة، والتحرك أحيانًا بطائرة خاصة، والطعام الفاخر والحياة الفارهة، رددها خصوم حماس، لكن الصقور فى الحركة هم أول من قالها، صكوها ثم تركوها للآخرين يلوكونها.

رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يريد الوصول إلى الرهائن ليس بالتفاوض والتسلم، وهو ما تعمل عليه مصر وقطر وكان هنية نشطًا وفعالًا فى هذا الجانب، التفاوض يعنى بعض التنازلات على الجانبين، نتنياهو يريد الوصول إلى الرهائن بالاقتحام واستسلام حماس.

وكانت طهران الموقع المثالى لتنفيذ العملية، والواضح أن جهاز الموساد له تواجد نافذ ومؤثر، نفذوا من قبل عدة عمليات هناك، دون أن يعترضهم أحد، ذات مرة أدلى الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد بتصريحات مفادها أن رئيس الاستخبارات الخارجية فى إيران، فى وقت ما، تبين أنه مجند لصالح إسرائيل.

هذه المرة كنا بإزاء مباراة غريبة، فور الإعلان عن عملية الاغتيال صدر تصريح منسوب إلى مصادر داخل الحرس الثورى الإيرانى بأن مقذوفًا جويًا انطلق من خارج البلاد، ثم قيل فى تبرير ذلك أن المناطق الصحراوية الحدودية ممتدة وأنها "خارج التغطية الرادارية الإيرانية"، وهذا لو صح يعنى أن جزءًا من إيران مكشوف تمامًا مخابراتيًا وعسكريًا، بعد ساعات فقط وقبل نهاية اليوم، خرجت إحدى القنوات الإسرائيلية لتعلن استنادًا إلى بعض مصادرها وتؤكد أن الصاروخ انطلق من داخل إيران وليس من خارجها، سواء إحدى البلاد الحدودية أو من إحدى السفن.

فى اليوم الثالث تعلن "نيويورك تايمز"، اعتمادًا على عدة مصادر، بعضها من داخل إيران، أن غرفة نوم هنية زرعت بها قبل شهرين قنبلة، تم تفجيرها عن بعد، عقب أن تم التأكد من أن الرجل دخل فراشه، إلى هذا الحد هناك استباحة وانكشاف مخابراتى، مما دفع البعض من زملائنا إلى الذهاب بعيدًا والقول إن اغتيال هنية كان "عملية مشتركة"، إيرانية/إسرائيلية، وهو قول يصعب القبول به فى ضوء المعلومات المتاحة، لكن لا يمكن استبعاده بالمطلق، علاقات الظلام تكون دائمًا واسعة السراديب، وهنا يكون التساؤل عن مستوى المتعاونين وحدودهم أو نفوذهم داخل الجمهورية الإسلامية.

الرسالة الأهم من إسرائيل أنها موجودة بالفعل داخل طهران وفى المقار الآمنة جدًّا للحرس الثورى وتتحرك بحرية دون اتفاق تطبيع ودون معاهدة سلام. ليس هذا فقط بل إن رئيس الوزراء الفلسطينى السابق ورئيس المكتب السياسى لحماس ظل مؤمَّنًا فى اسطنبول وفى الدوحة وفى زياراته للقاهرة أو إلى عمان، بل كان فى أمان تام حتى وهو داخل فلسطين المحتلة، لكن فى طهران كان مكشوفًا تمامًا أمام الموساد الإسرائيلى وكان الاغتيال فى انتظاره.

المصري اليوم

يقرأون الآن