قبل أيام وصف مالك منصة "إكس" إيلون ماسك ما يحدث في بريطانيا ببدايات حرب أهلية، فانهالت عليه التعليقات والردود الرسمية والشعبية في المملكة المتحدة، لكن مع تصاعد أعمال العنف إلى حدود اعتقال مئات الأشخاص خلال أسبوع واحد، وتمدد احتجاجات اليمين المتشدد إلى أكثر من 23 منطقة، بات السؤال مشروعاً حول ما يجري، وما ينتظر البلاد مع استمرار الأزمة لوقت أطول ومساحة أكبر جغرافياً وسياسياً ومجتمعياً.
ورد متحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر إنه "لا يوجد مبرر" لتعليقات ماسك، أما وزيرة شؤون العدل هايدي ألكسندر فقالت لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن "تعليقات الملياردير الأميركي غير مبررة إطلاقاً ومؤسفة للغاية"، لافتة إلى أن ماسك سيتحمل مسؤولية تصريحاته هذه التي وصلت لأكثر من 192 مليون شخص، في إشارة إلى عدد متابعيه على المنصة التي كانت تحمل اسم "تويتر" حتى الـ 23 من يوليو (تموز) 2023.
ورداً على تغريدة ماسك خرج رئيس الوزراء ليعلن التصعيد الأمني ضد التخريب أو "البلطجة" التي تهدد المجتمع المسلم في المملكة المتحدة، فعاد ماسك مرة أخرى ليعلق على تصريحات ستارمر بمنشور كتب فيه "ألا يجب عليك أن تقلق في شأن أمن جميع المجتمعات في البلاد؟"، فبدا وكأن الملياردير الأميركي يؤيد احتجاجات "اليمين المتطرف" البريطاني أو أنه يعترض على الطريقة التي تتعامل الحكومة فيها مع الاحتجاجات.
وبعيداً من السجال الافتراضي بين ماسك وستارمر ثمة خشية من تفجر حرب أهلية في البلاد بعد أن بلغ الأمر حدود تهجم التظاهرات اليمينية على المساجد والمؤسسات الدينية والأملاك الشخصية للمسلمين، فتطوع شباب من أبناء الجالية في مدن مثل مدينة برمنغهام للدفاع وصد تلك الاعتداءات، كما لوحظت إجراءات مماثلة حول فنادق يقطن فيها مهاجرون وصلوا البلاد عبر القنال الإنكليزي، وينتظرون حسم طلبات لجوئهم وإقامتهم.
الإرهاب والـ "إسلاموفوبيا"
وقال الرئيس السابق لشرطة مكافحة الإرهاب نيل باسو إن "بعض أعمال العنف خلال أعمال الشغب صارت أقرب إلى الإرهاب في تصنيفها"، ونوه باسو الذي شغل المنصب بين عامي 2018 و2021 في حديث مع صحيفة "غارديان" بضرورة تمعن خليفته والجهات المتخصصة بدقة في "التعريف القانوني للإرهاب" عند مراجعة بعض الأحداث التي وقعت خلال الأسبوع الماضي، وأرهبت بعض فئات المجتمع البريطاني.
رئيس الوزراء قال إن كل من شارك ويشارك في الأعمال العدائية سيواجه "القوة الكاملة للقانون"، وأعلن ستارمر عن جيش من الضباط المتخصصين لمواجهة محاولات "البلطجية" التعرض للمسلمين أو أية أقليات أخرى في البلاد، وكذلك قدمت وزارة الداخلية حماية أكبر للمساجد في إطار عملية استجابة سريعة جديدة مصممة للتعامل بسرعة مع التهديدات بشن مزيد من الهجمات على أماكن العبادة في البلاد.
المجلس الإسلامي في بريطانيا أثنى على خطة الحكومة الجديدة للدفاع عن الأقليات في البلاد والتي خصص لها نحو 30 مليون جنيه إسترليني، وتسمح للمجالس المحلية والبلديات بطلب حماية عاجلة لدور العبادة والمدارس وممتلكات مجتمعات المهاجرين في المملكة المتحدة، كما قال المجلس في بيان رسمي إن "قوات الشرطة تبذل أقصى ما في وسعها، ويتعرض أفرادها للخطر في سبيل الدفاع عن جميع الجاليات".
ودعا المجلس أبناء الجالية المسلمة إلى التعاون مع الشرطة والبقاء على تواصل معهم من أجل الإبلاغ عن أي اعتداء يقع على الأماكن والممتلكات الخاصة، في حين طالب النائب العمالي أفزال خان الحكومة بوضع تعريف رسمي للـ "إسلاموفوبيا"، وصياغة إجراءات وقوانين صارمة لمواجهتها، لأن "تجاهل هذا الأمر خلال الأعوام الماضية هو ما أوصل البلاد لعداء واضح للمسلمين، تستغله جماعات اليمين المتطرف اليوم".
المواجهة القانونية
تتجاوز إجراءات الحكومة البريطانية الجديدة لمواجهة اعتداءات و"بلطجة" اليمين المتطرف حدود القوة الأمنية وتعزيز عدد وأدوات ضباط وعناصر الشرطة في الشوارع، فقد قامت بتعديل بعض القوانين من أجل تقديم المخربين والمحرضين على العنف إلى القضاء وإصدار الأحكام بحقهم، سواء بفرض الغرامات المالية عليهم أو الزج بهم في السجون لفترات زمنية تتباين وفقاً للجرم والضرر اللذين ارتكبا.
في حديث مع "اندبندنت عربية يقول أستاذ القانون المقارن في جامعة ميدلسيكس نهاد خنفر إن "العقوبات الجنائية ستشكل رادعاً بالنسبة لكثيرين من الذين يرتكبون أعمال شغب واعتداءات في الشوارع، سواء على الأفراد أو المنشآت، ولكن هذا التغليظ في العقوبات يمكن أن يرفد السجون بمزيد من المجرمين ويرفع الأعداد والأعباء على المنشآت الإصلاحية التي وصلت سلفاً إلى أقصى طاقاتها الاستيعابية قبل الأزمة".
وفي المواجهة غير الأمنية أيضاً قررت الحكومة وقف دعاية "اليمين المتطرف" إلى احتجاجاته عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسعت إلى قوانين تجرم من يروج للعنف أو ضد المهاجرين عبر تلك المنصات، وكذلك تعمل على معاقبة نقل المعلومات المغلوطة وغير الصحيحة على غرار ما حدث عندما تناقلت ملايين الحسابات في "إكس" اسماً مزيفاً لمرتكب جريمة الأطفال في مدينة ساوثبورت التي فجرت غضب البريطانيين.
وزيرة الداخلية إيفيت كوبر قالت إن الحكومة اجتمعت مع مسؤولي ورؤساء منصات التواصل في لندن وطالبتهم بتحمل مسؤوليتهم في التصدي للمعلومات المغلوطة والأخبار المحرضة على الكراهية والعنف داخل المملكة المتحدة، كما نوهت كوبر إلى أن هيئة "أوفكوم" المسؤولة عن المحتوى الإلكتروني تستعجل إتمام اللوائح الخاصة بقانون التصفح الآمن للإنترنت الذي أقر العام الماضي في عهد حكومة حزب المحافظين.
البعد السياسي
وتبدو الإجراءات القانونية والأمنية التي تتخذها الحكومة في مواجهة احتجاجات اليمين غير كافية من وجهة نظر ساسة يحسبون على هذا التيار، ولا يمثلون "الشعبويين" بالضرورة وإنما يرفعون أصواتهم إلى جانب أولئك الذين يشاركون في التظاهرات اليوم بصورة سلمية، ويطالبون الحكومة بإجراءات حقيقية لوقف الهجرة وتبني "سياسات تعيد لهم الإحساس بالأمن والأمان في بلادهم"، ومن بين هؤلاء النائبة العمالية عن منطقة تامورث سارة إدوارد التي قالت إن سكان دائرتها عبروا مراراً عن رغبتهم في إخلاء الفنادق من المهاجرين غير الشرعيين، واتخاذ إجراءات رسمية لحل أزمة الهجرة المتراكمة منذ أعوام.
الوزير والنائب المحافظ السابق جاكوب ريس موغ يقول أيضاً إنه يجب على حكومة "العمال" النظر إلى مطالبات المتظاهرين بوقف الهجرة، وبالتالي لا يجب أن "نصف المحتجين جميعهم بـ 'البلطجية' وإنما يتعين على ستارمر ووزرائه البحث عن حلول حقيقية لمشكلات يثيرها الغاضبون في الشارع إزاء تزايد أرقام المهاجرين في المملكة المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة، وضعف اندماج فئات من المهاجرين في المجتمع البريطاني".
نواب في حزبي المحافظين و"ريفورم" طالبوا رئيس الوزراء بدعوة برلمان لندن إلى الانعقاد وقطع الإجازة الصيفية للنواب من أجل مناقشة الأزمة والبحث عن حلول لها، لكن ستارمر رفض هذه الدعوات وقال إن "حكومته تركز على معالجة المشكلة وتداعياتها"، فيما فسرت الباحثة السياسية جاسمين كلير الأمر في حديث إلى "اندبندنت عربية" بأن "ستارمر يفضل عدم فتح جبهة على حكومته تحت قبة مجلس العموم، عبر إطلاق العنان لنواب اليمين لمهاجمة الحكومة ووزرائها في ملفات عدة انطلاقاً من الأحداث الراهنة".
وبين البعدين السياسي والأمني للأحداث الراهنة تكبر أزمة اليمين الشعبوي في بريطانيا ككرة الثلج، ومع اتساع رقعة الاحتجاجات وأعمال العنف يزداد احتمال وقوع صدامات بين سكان البلاد الأصليين والمهاجرين، لتتحول إلى حرب أهلية قد تكون الرابعة إن وقعت بعد مرور نحو 400 عام على ثلاثة حروب من هذا النوع عرفتها البلاد بين عامي 1631 و1652، مع اختلاف الأطراف المتحاربة اليوم مقارنة بتلك الأحداث في الماضي البعيد.