بين أوهام غوبلز وأهداف

متلازمة الرجل الضئيل (little man syndrome)، أو ما يُسمى "عقدة نابليون" أو "حالة الشعور بالدونية"، هي مشكلة نفسية معقدة، لكنها ليست تشخيصًا للصحة العقلية لمن يعاني منها. فهذا المصطلح إشكالي لأنه قد يمثل صورة نمطية مُهِينة وغير مَرَضِيّة في نظر المجتمع. في علم النفس، تشير هذه المصطلحات عمومًا إلى الشخص الذي يعاني من القلق وأفكار توحي بشعوره بالنقص، وغالبًا ما يشعر هؤلاء الأشخاص بأنهم ليسوا جيدين بما يكفي أو لا يرقون إلى مستوى الآخرين، ويعانون من أزمة السعي للمكانة.

كان جوزيف جوبلز، وزير الدعاية النازية، هو من تُنسب إليه عبارة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون". من هؤلاء الأشخاص الذين تعتريهم أعراض متلازمة الرجل الضئيل، ليس لأنه كان يعاني من قصر القامة وضآلة في الجسد وتشوه في البنية الجسدية فقط، بل أيضًا بسبب معاناته من شعور مزمن بالدونية الاجتماعية في بواكير حياته، مع ما صاحبه من شعور بمرارة هزيمة الألمان المذلة في الحرب العالمية الأولى.

هذه المشاعر المختلطة النفسية والاجتماعية والقومية شكلت أساليب غوبلز الدعائية (صناعة البروباغاندا) في ثلاثينات القرن العشرين، التي شهد فيها العالم صعود الدعاية الإعلامية، مستفيدة من تطور التلفزيون والسينما والراديو والصحف المطبوعة، ومركّزة على التأثير النفسي على سلوك الجماهير ورسم قناعات وأفكار وأيديولوجيات محددة.

غوبلز أخذ البروباغاندا إلى مستوى آخر، بحيث جعل منها فلسفة حاكمة سخرت لها جميع الإمكانيات الألمانية، لا مجرد وسيلة لخدمة المشروع النازي، وبني مقياس نجاحه على مستوى التأثير في الرأي العام.

لكن ما يلفت النظر فعلاً هو أن غوبلز وضع قواعد أساسية للإعلام السياسي، تتكون من مزيج يتسم في أغلبه بصورة ترفيهية تحمل رسالة غير مباشرة، مع قليل من الرسائل السياسية المباشرة. ولا يزال صناع الإعلام اليوم ينظرون إلى هذه القواعد كقواعد ذهبية للصنعة في الإعلام السياسي والعلاقات العامة والدعاية التجارية. والمبدأ الذي وضعه غوبلز يقوم على أن الفكرة السياسية يجب أن تدخل في أذهان الجماهير متخفية في إطار من الترفيه بنسبة تسعة وتسعين بالمائة، بينما الواحد بالمائة المتبقي هو عبارة عن دعاية للفكرة.

كانت الآلة الإعلامية الألمانية ذات كفاءة عالية ومستعدة بشكل جيد للحرب، تصل إلى كل مواطن ألماني وأوروبي، لدرجة أن الحلفاء كانوا منبهرين بما كان يبثه "راديو برلين" من معلومات وأخبار تركت أثراً نفسياً إيجابياً لصالح النازيين قبل الحرب، حتى في أذهان بعض الأوروبيين كالفرنسيين والإيطاليين والإسبان مثلاً.

يبقى الهدف السياسي، مهما كبر، انعكاساً للحالة النفسية التي يعيشها حامله، والتي تتشكل منها شخصيته السياسية نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والمادية التي مر بها في جميع مراحل حياته. ومتلازمة "الرجل الضئيل" التي عانى منها غوبلز هي التي شكلت فكره السياسي وتسخيره الخبيث للإعلام وتغليفه بالترفيه لخدمة معتقداته وطموحاته النازية.

لكن ماذا حدث في النهاية؟ سقط المشروع، وانهارت أحلام غوبلز، وهُزمت ألمانيا النازية، وقتل غوبلز بناته الست بالسم، ثم انتحر هو وزوجته بعد أن أدرك أن كل ما قام به كان وهماً كبيراً.

الأسلوب الغوبلزي ذو الغلاف الترفيهي في الحملات الإعلامية المكشوفة على المملكة التي أتت هذه المرة في صورة "قرون الماعز" الهندية والذي يحمل أعراضاً متقدمة من متلازمة الرجل الضئيل، ما هو إلا جزء من حملة سوف تتحطم قرونها الضعيفة على صخرة طويق الشامخة، كما تحطمت قبلها قرون عوجاء كُثُر. وقريبٌ من جبل طويق تقع منازل صناجة العرب الأعشى البكري القائل:

ألست منتهيًا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل

كناطح صخرة يومًا ليفلقها ... فلم يضرها، وأوهي قرنه الوعل

وأثلتنا: عزنا وأصلنا ومجدنا الرفيع.

العربية

يقرأون الآن