في جو مشحون بالحماس والتفاؤل، بايع الحزب الديموقراطي نائبة الرئيس "هاريس" كمرشحة الحزب للانتخابات التي ستجري في نوفمبر المقبل، بعد الاستماع إلى خطب ومشاركة نجوم الحزب، أبرزهم الرئيس الاسبق أوباما وزوجته والمرشحة السابقة زوجة الرئيس الاسبق كلينتون، سادت موجات التفاؤل بالانتصار في نوفمبر تأثراً بالحصيلة التي تسجل آليات المسح لرغبات أصوات الناخبين.
ورغم مشاركة الرئيس بايدن في معارك غزة وتواصل العدوان المبرمج نحو الإبادة، فإن الجانب الإسرائيلي لم يعط مقترحات الرئيس الأمريكي ولا مساعيه الاحترام والجدية التي توقعها الرأي العام العالمي بسبب صلابة الارتباط الأمريكي الرسمي بالشأن الاسرائيلي في تأمين سلامته ودعمه بما يحتاجه للتفوق الذي سيؤمن في النهاية حضور العرب لطاولة المفاوضات لانعدام الخيارات.
وتولد هذا الالتزام الأمريكي لمواقف اسرائيل مع نهاية الدورة الأولى من رئاسة الرئيس الأمريكي ايزنهاور 1952 - 1957، وهي المرحلة التي شهدت حرب السويس واحتلال اسرائيل لشبه جزيرة سيناء وغزة، وأظهر الرئيس الأمريكي صلابة ضد بريطانيا وفرنسا واسرائيل، مصراً على الانسحاب التام لا سيما من غزة وسيناء، وتمكن إيزنهاور من تحقيق ما أراد بانسحاب بريطانيا وفرنسا وتلاه الانسحاب الاسرائيلي من سيناء الذي تحقق من ترتيبات أمنت مشاركة الأمم المتحدة، بإرسال قوات دولية على الحدود بين مصر واسرائيل مع الحفاظ على حق إسرائيل في العبور عبر مضيق تيران وتواجد قوات دولية لتأكيد تنفيذ هذا الاتفاق الذي حقق الانسحاب التام من جميع الأراضي المصرية ومن غزة، وسجلت هذه الترتيبات وموافقة مصر عليها في وثائق الأمم المتحدة.
وبعد هدوء استمر أكثر من عشر سنوات، اتخذت الحكومة المصرية قراراً بسحب القوات الدولية من مضيق تيران، الأمر الذي فجر أزمة خطرة تنسف ما توصلت إليه الأطراف عبر ترتيبات من الأمم المتحدة وجهود جبارة من الرئيس ايزنهاور خلال رئاسته خاصة لانسحاب اسرائيل من سيناء، ورغم التواصل من قبل الأمم المتحدة مع مصر لإعادة النظر في القرار قبل الانفجار، فلم تحقق دبلوماسية المساعي الطيبة نزع الفتيل، وحدث الانفجار في الخامس من يونيو 1967 واحتلت اسرائيل سيناء وغزة والمضيق، وكان رد موسكو دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وشارك المرحوم الشيخ صباح في تلك الدورة الصاخبة، وكنت في معيته في نيويورك، نتابع ما يدور في اجتماعات متواصلة لوزراء خارجية الدول العربية، وكان محمود رياض ممثلاً لمصر في تلك الدورة..
كانت الدورة حرباً سياسية بين الولايات المتحدة وحلفائها وبين الدول العربية، وتحولت كتلة أمريكا الجنوبية إلى فريق يتوسط ويقدم صيغا لم ترض أي طرف، وناصرت أفريقيا ومعظم دولها مصر، وانقسمت آسيا، وانتهت الدورة بعجز الأسرة العالمية عن تحقيق التوافق الذي ينسجم مع مبادئ الميثاق ويرضي الولايات المتحدة الذي انقلب موقعها من وسيط إلى طرف متصلب.
كانت اجتماعات وزراء الخارجية العرب متواصلة في كل صباح، يناقش الوزراء آخر الأخبار ويتفحصون مواقف الدول، ويبحثون عن مخرج يرضي طلب مصر في التركيز على سحب القوات المحتلة من أراضيها، ولم يكن ذلك مقبولاً حتى من دول جنوب أمريكا ومن بعض دول عدم الانحياز التي تفرقت، وكان الفشل مؤلماً لاسيما لمصر وللعرب ومناصيرهم، وأعتقد بأن وزير خارجية مصر، محمود رياض، كان يميل إلى قبول قرار أمريكا الجنوبية بدعوة اسرائيل للانسحاب بشروط تنقل المنطقة إلى ترتيبات لاستتباب السلام والسكينة.
وفي آخر شهر نوفمبر 1967، توجه الشيخ صباح إلى واشنطن للاجتماع مع الرئيس جونسون، وتم اللقاء بحضور بعض مستشاريه وكنت والسفير الكويتي طلعت الغصين في واشنطن بمعية المرحوم الشيخ صباح، وكنت أعد المحضر.
كان اللقاء درساً واضحاً لتبدلات الدبلوماسية الأمريكية تجاه قضية فلسطين، اختفت الملامح الايجابية التي رافقت عهد إيزنهاور ورسمت واشنطن سياسة جديدة، أبرزها لا انسحاب من دون اتفاق سلام، ولا دور للأمم المتحدة مع إغلاق أبواب مجلس الأمن، وكل محتويات ملف القضية الفلسطينية يتم حلها بالمفاوضات مباشرة أو عبر الأمم المتحدة، وسيطر الشلل على مساعي المنظمة الدولية، وبرز فصل جديد فيه اختبار قدرة كل طرف على تحمل مشاق أثقال الاحتلال الذي بدأت إسرائيل تحركه ببناء مستوطنات على أراضي سيناء واستغلال آبار النفط في السويس واستمتعت بظهور التعايش العالمي مع واقع الاحتلال القابل للاشتعال في أي وقت، ورغم موافقة مجلس الأمن على القرار 242 في نوفمبر 1967، ورغم تعيين ممثل للأمين العام للأمم المتحدة، وتنقلاته بين العواصم المعنية، لم يتبدل الوضع الذي تجمد، وكانت دبلوماسية واشنطن هي إغلاق الاختيارات أمام العرب، والحفاظ على خيار واحد، هو الدخول في مفاوضات مع اسرائيل مع استعدادات الولايات المتحدة للمساهمة في تذليل العقبات.
في سبتمبر 1970، توفي الرئيس جمال عبدالناصر بعد معاناة مع المرض، ومن أثقال الاحتلال، وتلاشي الاختيارات التي يمكن قبولها، وجاء السادات بفهم أكثر وضوحاً لحقائق الموقف الاستراتيجي الأمريكي، وسار يخطط للمواجهة التي تفتح ممراً للحلول السلمية، وكانت حرب أكتوبر 1973، وما صاحبها من قرار وقف تصدير النفط الخليجي إلى الولايات المتحدة، ومن ذلك القرار، وضحت الحاجة الملحة للأسرة العالمية لنفط الخليج، وما سببته المقاطعة من توتر تسيد العلاقات بين الدول مع دورة خاصة للأمم المتحدة.
ويسير الرئيس السادات وفق النهج الذي رسمته الولايات المتحدة في تواجدها في المفاوضات بين مصر واسرائيل، وتكتمل الصفقة بانسحاب اسرائيلي من سيناء وتواجد قوات مراقبة أمريكية في المنطقة.
حققت واشنطن حلولاً وفق مرئياتها، وتجاوز السادات المعتاد إلى المثير في توقيع اتفاق سلام وتبعه الأردن، وتلاشت إمكانيات الحروب، واتضح مسار السلام لمن يريد العبور إلى فصل السلام.
المهم أن مقابلة الشيخ صباح مع الرئيس جونسون أوضحت التباين بين الثقافات العربية والأمريكية، فكان الرئيس خشناً يتساءل: أين صوت الاعتدال العربي لصد ناصر من سحب القوات؟ مشيراً إلى دور واشنطن في سحب اسرائيل من سيناء في عهد إيزنهاور، وانعدام التقدير العربي للجهد الذي قامت به الولايات المتحدة، ومردداً بأن العرب فرحوا لخطوات ناصر متجاهلين خطورة القرار المصري في مسببات الانفجار.
كنت أستمع إلى الرئيس يعبر عن تقدير مختلف لما يجب أن يكون عليه الدور العربي لتحاشي المواجهة، ومؤكداً على المستجدات في الموقف الأمريكي المستعد للمساهمة في حلول سلمية، تؤدي إلى سلام.
لم تظهر حالياً أية مؤشرات على شيء جديد في الدبلوماسية الأمريكية تجاه ملف العلاقات بين اسرائيل والعرب، فالدعم العسكري والسياسي وفي داخل الأمم المتحدة هو الضمان المؤدي إلى قبول العرب لاتفاقية سلام مع اسرائيل، هذا الموقف الاستراتيجي تجاه الملف الفلسطيني ثابت، فقد حقق حصيلة استراتيجية جوهرية مع مصر والأردن، وهما أهم دولتين عربيتين في ملف المواجهة، ويبقى الشعب الفلسطيني المكافح المعاني من ظلم وعدوان يأتيان من المحتل ومن منظمات فلسطينية يدفعها اليأس إلى المواجهات غير المحسوبة في نتائجها، وتحولت القنوات العربية - الأمريكية إلى ملفات ثنائية في مختلف الموضوعات وداعمة لما قد يحققه الشعب الفلسطيني من نضاله وفدائيته وتضحيات شهدائه أو لخياراته نحو السلام..
لن تتبدل دبلوماسية واشنطن سواء نجح الديموقراطيون أو الجمهوريون الذين سيقدمون أكبر مكافآت لاسرائيل.
القبس