تزداد المَخاوفُ من أزماتٍ «أخطبوطيةٍ» ينزلق إليها لبنان الذي تَعَوَّدَ الوصولَ متأخّراً إلى كل الحلول التي باتت تُسابِق هذه المَرة الانهياراتِ المالية والمعيشية المتسارعة والصفائح الساخنة في المنطقة التي لطالما تحرّك عليها الواقع في «بلاد الأرز».
وإذا كان استشرافُ أزمةٍ في ملف تشكيلِ حكومةِ ما بعد الانتخابات النيابية أمراً بدهياً في ضوء الحسابات التي جعلتْ هذا الاستحقاق بمثابة «الحديقة الخلفية» للانتخابات الرئاسية التي يتم التعاطي معها على أنها لن تحصل بموعدها الدستوري (31 أكتوبر كحد أقصى)، فإن «اللغم البحري» الذي شكّله «تسخينُ» قضية الترسيم مع إسرائيل والصراعُ حول مكامن الغاز والنفط يشي بأن يتحوّل بمثابة «كمينٍ» لمجمل الوضع اللبناني في ضوء الخلفيات والخفايا المتعددة البُعد التي تَحْكم هذا العنوان الموصول بـ «صواعق» الإقليم وما بعده.
وفي حين يدخل لبنان هذا الأسبوع الشهر الثاني بعد انتخابات 15 أيار، لا يلوح حتى الساعة في الأفق ما يؤشر إلى أن اكتمال تجديد السلطة عبر حكومةٍ كاملة المواصفات يقف على مشارف اختراقاتٍ ولو من بوابة تكليفٍ وشيكٍ للشخصية التي ستتولى التأليف، في ظل ارتسام عمليةِ «عض أصابع» بين الرئيس نجيب ميقاتي الأوفر حظاً لمعاودة تَسَلُّم الدفة حكومياً ولكن ليس بشروط الآخَرين، وبين فريق الرئيس ميشال عون الذي يدير هذا الملف بوصْفه «خطاً أمامياً» للاستحقاق الرئاسي و«استحكاماته» السياسية، راسماً بإزاء كل سقفٍ ما يوازيه في سياق إرساء «توازن سلبي»، على قاعدتين: الأولى «حكومة سياسية بالكامل» مقابل تحبيذ ميقاتي تشكيلة شبه «مستنسخة» في طبيعتها وتوازناتها عن التي شكّلها في أيلول الماضي.
والثانية أن تَعَمُّد إمرار الوقت لإبقاء حكومة تصريف الأعمال حتى انتهاء ولاية عون لترث صلاحيات الرئاسة الأولى، من دون الأخذ بمصالح «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل الذي لن يسلّم بحكومةٍ من «الوزن الخفيف» سياسياً لتدير مرحلة الشغور الرئاسي، سيفتح الباب أمام «جعل كل موقع ومؤسسة دستورية قائمة من دون حدود زمنية»، في غمز من إمكان عدم مغادرة عون قصر بعبدا.
وبعدما شكّل انتخاب برلمان 2022 اللجان النيابية ورؤسائها ومقرريها، فسحةً اختبأت وراءها التعقيدات ذات الصلة بالملف الحكومي، فإن عنصريْن إضافييْن يُخشى أن يدفعا بالاستشارات النيابية المُلزمة التي يملك رئيس الجمهورية منفرداً قرار الدعوة إليها لتكليف رئيس للحكومة لمزيد من التأخير:
أوّلهما ما ظهّرتْه جلسة انتخاب اللجان لجهة أن ائتلاف «حزب الله» والتيار الحر وحلفاؤهما نفذا عملية «انتشار» مدروسة خلف خطوط ما تَبَيَّن أنه «أكثرية وهمية» ربحت الانتخابات النيابية، حيث فاز هذا الائتلاف برئاسة 11 لجنة من أصل 16، مع تكريس في الوقت نفسه وجود بلوكاتٍ نيابية متفلّتة ومتحرّكة، الأمر الذي يشتّت الأصوات في استحقاق تسمية الرئيس المكلف، ولا سيما بحال رفض «التيار الحر» في إطار لعبة ابتزاز ميقاتي تسميته، ما قد يجعل رئيس الجمهورية وحتى «حزب الله» يفضّلان التريث في الدعوة لاستشاراتٍ مفتوحة على مفاجآتٍ، وهو ما ستكون الأيام القليلة المقبلة كفيلة بتظهير مدى دقته.
والثاني قضية الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل التي انتقلت إلى مرحلةٍ أخرى منذ وصول سفينة الإنتاج «انرجين باور» اليونانية إلى حقل «كاريش»، واستنجاد بيروت بالوسيط الأميركي آموش هوكشتاين الذي يصل إلى «بلاد الأرز» غداً في محطة تستمر يومين، ليسمع ردّ المسؤولين اللبنانيين على المقترح الذي سبق أن قدّمه في فبراير الماضي حول النزاع على المنطقة الواقعة بين الخط الاسرائيلي 1 والخط اللبناني 23 (مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً) والذي يعكس منحى لتقاسُم الحقول تحت الماء أكثر منه ترسيم الحدود فوقها.
ولن يدعو عون بالتأكيد لاستشارات التكليف في النصف الأول من الأسبوع الطالع بانتظار مغادرة هوكتشاين وتقويم نتائج زيارته وما سيليها، وسط توقف أوساط واسعة الاطلاع عند مسألتين:
* الأولى احتجاب رئيس البرلمان نبيه بري، الذي كان عرّاب الاتفاق الإطار الذي انطلقت على أساسه مفاوضات الترسيم في اكتوبر 2020 برعاية أممية ووساطة أميركية في مقر «اليونيفيل» في الناقورة والذي كان أعطى فيه انطباعاً ضمنياً بأنه وافق على الخط 23، وغيابه عن الاجتماع الذي عُقد في قصر بعبدا أمس، بين عون وميقاتي وخُصص لمناقشة ما سيبلغه لبنان إلى هوكشتاين، خصوصاً لجهة هل ترْمي بيروت نهائياً ورقة الخط 29 (توسّع المنطقة المتنازع عليها بـ 1430 كيلومتراً مربعاً) أم تُبْقي عليها كخط تفاوض «مكشوف» لضمان تجديد المفاوضات المكوكية على خط لبنان – إسرائيل عبر الوسيط الأميركي وانتزاع ما أمكن من مكاسب ضمن الرقعة الواقعة بين الخطين 1 و23.
ولم يكن عابراً ربْط تقارير غيابَ بري عن اجتماع قصر بعبدا بما سبق لعون أن ذكّر به يوم الخميس لجهة أنه المُمْسك بهذا الملف بوصفه «يندرج في إطار المفاوضات الدولية»، وسط أسئلة عما إذا كان رئيس البرلمان لا يريد إشراكه في المسؤولية عن أي خياراتٍ أو تَراجُعاتٍ عنها لم يكن يؤيّدها في أصل حصولها، وهو ما يطرح علامات استفهام حول وحدة الموقف اللبناني من الردّ على مقترح هوكشتاين.
ويُذكر أن ميقاتي حَمَل معه الى قصر بعبدا «ملفاً بالأسود» أفادت تقارير بأنه تضمّن خرائط، فيما ذكرت قناة «الجديد» أنه «حتى الساعة لن يصدر أي موقف أو سقف أو ورقة رسمية للتفاوض بانتظار ما يحمله الوسيط الاميركي».
وكان لافتاً أن الخارجية الأميركية أعلنت أن هوكشتاين يزور لبنان في 13 و14 الجاري للبحث في حلول مستدامة لأزمة الطاقة في لبنان، وأنه سيشدد على موقف إدارة الرئيس جو بايدن التي تأمل في أن يتوصل لبنان وإسرائيل لقرار حول ترسيم الحدود البحرية والتي «ترحّب بالروح التشاورية وانفتاح الأطراف المعنيين على التوصل إلى قرار نهائي يتيح تعزيز الاستقرار والأمن والازدهار للبنان واسرائيل كما للمنطقة».
* أما المسألة الثانية فالدخول القوي للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله على خط هذا الملف، راسماً معادلة «وقف الاستخراج من كاريش وانسحاب السفينة اليونانية سريعاً وفوراً» بانتظار انتهاء المفاوضات وإلا «لن نقف مكتوفين».
وحذّر نصرالله الشركة اليونانية من التورط «في هذا العدوان وفي هذا الاستفزاز للبنان وعليها أن تتحمل المسؤولية الكاملة عما قد يلحق بها مادياً وبشرياً»، مؤكداً «امتلاك القدرة المادية والعسكرية والأمنية واللوجيستية» لمنعها من الاستخراج فـ«لا نستطيع أن نقف مكتوفين ولن نقف مكتوفين، كل الخيارات مفتوحة ومطروحة وموجودة على الطاولة فنحن لا نريد الحرب لكن لا نخشاها».
وأعلن ان «الهدف المباشر يجب أن يكون منع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش (...) ليس مهماً أين وقفت السفينة، وأين الحفر والاستخراج.
الخطر في الأمر أنّ العدو سيبدأ بالاستخراج في الحقل المشترك والواحد والمتنازع عليه، ولبنان ممنوع عليه استخراج ما في مناطقه والبلوكات الواقعة خارج النزاع».
ولم تتوانَ أوساط واسعة الاطلاع في بيروت عن وضْع اندفاعة نصرالله، وبمعزل عن استمرار وقوفه حتى الساعة وراء الدولة في القرار الذي تتخذه في ما خص خط الترسيم، في الإطار الواسع الذي لا يتحرّك «حزب الله» إلا على أساسه والذي يرتبط بملفات المنطقة وإن كان منطلقه في «العنوان» لبنانياً.
واعتبرت الأوساط عبر «الراي» الكويتيةأن هدف وقف الاستخراج من كاريش، ولو أنه يقوي موقع لبنان التفاوضي على قاعدة «لا غاز من كاريش من دون غاز من حقل قانا» الذي يسعى فريق رئيس الجمهورية لجعله كاملاً ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان ولو وفق الخط 23، إلا أن«ارتباطات»هذا الهدف تصل إلى ملف الحرب في أوكرانيا ولعبة «مَن يصرخ أولاً» بين روسيا والغرب في «حلبة الغاز»، باعتبار أن غاز كاريش سيكون معدّاً بعد نحو شهرين أو 3 للتصدير إلى أوروبا.
كما لاحظت الأوساط أنه لا يمكن فصل التهديد المباشر للسفينة اليونانية عن التوتر بين إيران وأثينا على خلفية احتجاز متبادل لناقلات نفط، علماً أن الخارجية اليونانية استدعت أول من أمس القائمة بالأعمال اللبنانية في أثينا وأبلغتها احتجاجاً على كلام نصر الله وأن «انرجين باور» غير مملوكة من الدولة وهي تمثل مجموعة شركات دولية ومن ضمنهم يتواجد بعض حملة الأسهم من رجال الاعمال اليونانيين.
الراي الكويتية