قبل ساعة من وقوع انفجار الرابع من آب، وتحديداً عند الساعة الخامسة وخمس دقائق، ورد اتصال من شرطة بيروت إلى غرفة العمليات في فوج الإطفاء في الكارنتينا، تطلب فيه المساعدة في إخماد حريق في مرفأ بيروت، من دون إضافة أيّ معلومة. سرعان ما هرعت فرقة مؤلّفة من 10 إطفائيين (شربل ونجيب حتي، وشربل كرم وجو بو صعب، ورامي كعكي، ومثال حوا، ورالف ملاحي، وإيلي خزامي، وجو نون وسحر فارس)، إلى مكان الحريق الذي تحوّل بعد ساعة إلى ما يشبه المحرقة، محوّلة عناصر فوج الإطفاء إلى شهداء.
توجّه الفريق في ذلك اليوم إلى «حادث مجهول»، كما يصفه رئيس «شعبة العلاقات العامة» في فوج إطفاء بيروت، الملازم أول علي نجم. حادث ظلّ إلى اليوم غامضاً بتفاصيله، فلم يبقَ من هؤلاء الشهداء، الذين ظلّ مصيرهم معلّقاً لأكثر من 12 يوماً بعيد الانفجار، من يخبر بما حدث وما إذا كان قد رافقهم أحد وقتذاك إلى ذاك العنبر الرقم 12.
مأساة فوج إطفاء «الكارنتينا» انسحبت أيضاً كارثة على مركزه المحاذي للمرفأ، فقبل عامين دُمّر بشكل كامل، واستعان عناصره بالخيم التي نُصبت على الركام. يعود بنا نجم إلى تلك الفترة، ويسرد كيف تضرّرت غرفة العمليات الزجاجية بالكامل، وأصيب عناصرها بجروح راوحت بين الطفيفة والبليغة. بعد تشييع الشهداء إلى مثواهم الأخير اتُّخذ القرار بإعادة رصّ الصفوف، وإعادة هيكلة أفراد الفوج، لتبدأ بعدها مرحلة التأهيل النفسي، الذي احتاج إليه باقي العناصر، خاصة أولئك الذين كُتبت لهم الحياة مرة جديدة، بعد تبديلهم في اللحظات الأخيرة مع زملائهم الشهداء.
حريق ثانٍ مجدّداً
هذه المأساة التي حلّت على الفوج، لم تثنه مرة جديدة عن تلبية نداء الواجب الإنساني، إذ على الرغم من فظاعة الانفجار والفقدان الأكبر الذي تجلّى باستشهاد فرقة كاملة، فإن العناصر اختبروا مرة أخرى، الذهاب إلى المرفأ، لإطفاء حريق آخر. حصل ذلك، بعد شهر من انفجار الرابع من آب، إبان احتراق المنطقة الحرّة في المرفأ. لا يخفي نجم أنه حاول منع عناصره بداية من الذهاب الى مكان الحريق «كي لا نأكل الضرب مرة أخرى». أقفل البوابة الحديدية الأساسية، وتمهّل الإطفائيون، إلى حين التأكد من الحريق بعدما أوكل مهمة الاستطلاع إلى أحد العناصر الذي اتجه إلى هناك عبر دراجة نارية. وبعد التأكد من اندلاع الحريق، شقّ نجم البوابة، وإذ بالعناصر كما يصف، يقفزون من فوقها، مندفعين بحماسة عالية، لتنفيذ مهمتهم الإنسانية «رسالتنا ما بتخلص عند الشهادة».
في الباحة الخارجية للمركز، يقترح نجم إجراء اللقاء الصحافي طمعاً بمزيد من التهوئة، لأن الصعود إلى الطبقة الأولى من المبنى حيث مكاتب العناصر، وغرفة العمليات، يعني الاكتفاء فقط بالتزوّد بالإنارة مع غياب أيّ نوع من التكييف في هذا الطقس الحار، على الرغم من وجود هبة الطاقة الشمسية. هذا الأمر، يحيلنا إلى السؤال عن هذه المساعدات والتجهيزات التي تلقّاها المركز في العامين الماضيين. فكيفما دار النظر، يقع على أسماء الجهات الدولية والمحلية التي قدّمت هبات إلى المركز. ومن المعروف أن الأخير ما زال يعاني من نقص حادّ في المعدّات والتجهيزات، بسبب الإهمال الرسمي، الأمر الذي أدّى في بعض الأحيان الى استشهاد عناصره، كما حصل قبل 7 سنوات في منطقة «مار الياس».
هبات... لا تجهّز
نسأل نجم عن الهبات المقدّمة إلى المركز وما إذا كانت ستساعدهم في تنفيذ مَهامّهم الإنسانية. ليتضح بأن جلّ هذه الهبات لا يرقى إلى تجهيزات فعلية، وقد مرّ عليها الزمن، إن كانت الآليات العشر المستعملة المقدّمة من الحكومة الكندية، والتي تتسع فقط لشخصين اثنين، فيما يحتاج إخماد أي حريق إلى خمسة أفراد كما يؤكد نجم، لذا يلجأ العناصر إلى الاستعانة بسيارة أخرى صغيرة تقلّ البقية. أو هبات ثياب الإطفاء والتي لم تكن أيضاً بجديدة، وقارب وقتها على الانتهاء، وكذلك أجهزة الاتصال التي لم ترق بدورها إلى شبكة متكاملة تسهم في التواصل بين العناصر.
واقع مرير إذاً، تضاعفه الأزمة الاقتصادية الحالية، لنصل في نهاية المطاف إلى قطاع يواجه نقصاً في معداته ويستخدم كوادره البشرية للتعويض، فيما يضع عناصره دماءهم على أكفّهم في كل مرة يواجهون فيها الحرائق «نحن منشتغل باللحم الحيّ»، و«كل إطفائي هو شهيد حيّ». في الطريق المؤدي الى مركز فوج الإطفائية تتراءى أمامنا صور الشهداء التي رُسمت على جدارية ملاصقة له. صور بقيت وحيدة من بين مقتنيات وأغراض اندثرت بفعل عصف الانفجار، إذ إن الأخير لم يبقِ على ما من شأنه أن يعزّي عناصر الفوج وعوائل الشهداء، بتخليد أماكن مبيت ذويهم أو الاحتفاظ بأغراضهم الشخصية. بقيت فقط خوذة حمراء، وُجدت في مكان استشهاد العناصر قرب العنبر الرقم 12، ووضعها نجم في مكتبه تخليداً لذكرى الشهداء فيما ظلّ صاحبها مجهولاً.
زينب حاوي - الأخبار