اتركوا لبنان يعيش

لبنان هو قطعة السماء التي تغنى بها وديع الصافي، هو الأرض الصغيرة جغرافيا لكنها الكبيرة بحكاياتها وأحلامها. هو البلد الذي حضن البحر والجبل والسهل، هو الذي جمع على أرضه مكونات ومعتقدات، حتى بات لوحة فسيفساء، لكن الطمع والفساد والارتهان والمحاور قامت بتفتيت هذه اللوحة النادرة التي كانت تزيّن محيطه وتجعله محطة لأشقائه للاستمتاع بطقسه وروحه التي تبث الفرح في قلب زائريه.

لبنان هو صباحات بيروت، وكورنيش عين المريسة والمنارة ومشهد تناثر شبكات الصيادين في ساعات الفجر.

بيروت هذه المدينة التي لا تعرف النوم، والتي تشرق كل يوم وكأنها تستعد لبدء حياة جديدة رغم الويلات والأحزان التي مرت بها.

هي المدينة التي تملأها المقاهي المزدحمة بالشباب الذين يحلمون بغدٍ أفضل، والتي تملأها الأزقة القديمة التي تحتضن ذكريات لا ينسى أهلها عبقها. بيروت هي الجامعات والمدارس التي خرّجت أجيالا من المثقفين والعلماء وجعلتهم يتبوؤن أفضل المراكز في العالم.

بيروت هي الحاضنة لأول وسيلة إعلامية مرئية في الشرق.

هي المدينة التي يصرّ أهلها بعزم وإصرار على أن ينبعثوا من جديد حتى بعد تفجير قلبها ومرفئها في 4 آب، لأنها اعتادت أن تكون مثل طائر الفنيق الذي ينبعث من الرماد.

لكن لبنان ليس بيروت وحدها، بل هو أيضا الجبل الذي يعانق الغيوم، وأوديته تروي قصص العابرين، فهو النبض الذي ينبعث من كل قرية، وكل شجرة زيتون، وكل بيدر حنطة، حيث تتوارث الأجيال حب الأرض وأمل البقاء.

لبنان هو سهل البقاع والجنوب الذي زُرعت أراضيه بأحلام الفلاحين، هو صور عروسة البحار، هو القلاع التي كانت شاهدة على تاريخ آلاف السنين، هو بعلبك مدينه الشمس وقلعتها الصامدة التي حضنت أبرز الفعاليات الفنية والثقافية والتي تغنى بها الشعراء.

لبنان هو الشمال، طرابلس الفيحاء التي لا تكفيك مئات الكتب لتخبر عن حاراتها وقصص أهلها وقلاعها وكهوفها وخان الصابون الذي ما إن تطأه أقدامك حتى تتنشق عبير الطبيعة الأخاذ.

لبنان، بشرّي ملهمة جبران خليل جبران وحاضنة غابة أرز الرب.

أما جبيل بيبلوس فهي تحتضن أشهر المواقع الأثرية ومن أقدم المدن في العالم.

فهذا البلد لم ينصفه القدر، جعل أرضه مستباحة من القريب والغريب.

وما ساعد بذلك، زعماؤه ومسؤولوه.

بسياساتهم جعلوا لبنان لقمة سائغة تقاسمتها المصالح الداخلية والخارجية.

صمود شعبه كل سنوات الحرب الأهلية والحروب الإسرائيلية لا يحتم أن تمتد هذه الحروب لتطال الأجيال كافة، كلما قرر فصيل أو دول تصفية حساباتها وشنّ حروب بالوكالة حتى تنعم أراضيها وأنظمتها بالأمان.

صحيح أنه رغم كل الأزمات والتحديات، لم يملّ اللبناني من السعي، ولم يفقد الأمل، إلا أن الحروب أنهكته والظروف القاسية في السنوات الأخيرة، والاقتصاد المنهار، والحرب الإسرائيلية الحالية أثقلت كاهل اللبناني.

صوت النازح الصادق على الرغم من محاولة البعض خنقه، بحجة أننا في حالة حرب وليس الوقت المناسب لمحاسبة حزب الله على قراره الدخول بحرب الإسناد، فتكون الاتهامات جاهزة كلما ارتفع صوت مكلوم فيخوّن ويتهم بالخنوع والاستسلام، إلا أنه يبقى الصورة الحقيقية لحال الناس ووجعهم..

ظروف الحروب الماضية مختلفة عن هذه الحرب.

نحن أمام نظام عالمي متغير، وهناك رؤى جديدة في المنطقة تسعى حكوماتها لتحقيق مستقبل أفضل لأبنائها وتجيّر كل إمكانياتها من أجل النجاح والمنافسة لتقديم الأفضل لمجتمعاتها.

فالمميزات التي كان يتمتع بها لبنان اندثر معظمها، بسبب السياسات الخاطئة وتقديس الزعماء وقراراتهم حتى وإن كانت غير صائبة، ما جعل المحاسبة أمرا بعيد المنال.

اتركوا لبنان واللبنانيين ينهضون مجددًا، دعوه يلتقط أنفاسه، فقد تعب من الحروب العبثية على أرضه، شباب لبنان يستحقون العيش والنجاح في أرضهم وبلدهم، تعبوا من الوقوف على أبواب السفارات لاقتناص أي فرصة علها تكون قشة النجاة لمستقبلهم، دعوا اللبنانيين يجدون في بعضهم البعض قوة تعينهم على الاستمرار، بعيدا عن الانقسامات العامودية التي نتابعها يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تكرس الاصطفافات الطائفية وهذا ينذر بتفكك النسيج الاجتماعي ويقضي على الوحدة الوطنية.

هذه الحروب والأزمات التي تعصف بلبنان تجعلك بحالة كشيزوفرانيا دائمة، تشعر فيها بعمق الحزن، كما يمكنك أن ترى فيها بصيص الأمل. هو الوطن الذي لا يخلو من الشقاء، لكن لا تنضب فيه شمس الأمل. وهو الحلم الذي يطمح كثيرون إلى تحقيقه، بالرغم من صعوبته، لأنهم يؤمنون بأن لبنان يستحق الأفضل، وأنه سيعود يومًا كما كان، بلدًا يفيض بالجمال، بالمحبة، وبالحياة.

العربية

يقرأون الآن