احتلال العقل هو الاحتلال الأكثر تأثيراً في حركة الشعوب إذا ما اقتحمت الأيديولوجيا المشهد، باعتبارها قادرة على إحداث شق في بنية الأمة عصي على الالتئام، فما بين محافظين متأصلين وبين قادمين أصوليين تتعطل لغةٌ وتحل مكانها غير لغة الكلام، وهو ما مضت به سائر الأمم التي دخلتها الأيديولوجيا، ثم لاحقاً غادرها سيل أكوام اللحم الأدمي المهدور، فمسألة القادم الجديد في أي أمة ما لم يشكل حداثة رافعة ونهضة صاعدة، يبقى حالة تشويه غير نظيفة، ولو كان خطاباً نظرياً فقط، فالأيديولوجيات علمتنا أنها مجرد بداية نظرية، وتختتم حياتها حكايا دموية.
لكن الأيديولوجيات لا تستطيع اقتحام المشهد إلا عندما تكون هناك قضايا كبرى مؤثرة في حركة الشعوب، من هنا كانت المسألة الفلسطينية حاضرة في اقتحام الأيديولوجيا للشارع العربي، إذ بقيت لغة الانقلابات العسكرية هي الأسرع في تنفيذ هذه المهمة، وبين الصعود والهبوط في الأزمات السياسية، بقي الحراك القومي واليساري مجرد تصنيفات في الكتب، غير قادر على تشكيل حالة مادية مؤثرة، باستثناء بعض الحضور الحزبي الضحل، والذي لم ينجح في صناعة أيديولوجيا، رغم محاولات الاستيلاد والاستيراد المتتالية للفكرة.
في الجانب الإسلاموي كانت الفكرة مختلفة تماماً، خصوصاً في مسألة خلط الدين في السياسة في المشهد، وبالتالي جاءت فكرة تبرير الحالة السياسية تحت مظلة المشاريع الدينية من جانب، ما جعل من القضية الفلسطينية تنزلق نحو مسألة تتفتح من حولها صراعات بينية، بالتالي كانت الخلطة السياسية الدينية تكاد تطفئ جانباً مضيئاً في القضية الفلسطينية، من خلال ظاهرة الملثم، صاحب الأيديولوجيا، والذي يرفض الحوار والجوار العرب، في عملية ارتهان كلي خارج الجغرافيا العربية، فما بين الحركات اليسارية الفلسطينية والإسلاموية الفلسطينية فوارق كبيرة، كان فيها اليسار أقل من أن يحشد قوى على الأرض، وكان فيها السوفييت آنذاك لا يريدون أكثر من ملحقات شكلية في ظاهرة الكومنترن الأممية الثالثة، بينما في الحالة الإسلاموية لدينا محور المقاومة، بأدواته والشراكة الممتدة بين فرقاء الجغرافيا وحتى المنهج ومع ذلك فهل من الممكن أن ينجح؟
مؤكد أن ظاهرة الإسلاموية صعدت من غير غفلة، لكن ظروف العولمة، أخرجت خطاب الزوايا المظلمة نحو الفضاء المطلق، وهو ما استقبلته عواطف الجمهور الذي غادر للتو الشعارات والخطابات القومية، ما جعل البديل الديني يتسلل برفق، فلم تعش الأجيال الحالية قصة معروفة عن الإسلاموية حتى تنكر عليهم مشروعهم، وبالتالي وجد هذا الجديد بيئة قابلة لاستيعاب التجربة ولا نقول إنها بيئة خصبة لانتشار الإسلاموية، وهو ما كان من محاولة لاحتلال العقل العربي وإعادة صياغته على قاعدة الفكر الإسلاموي، الذي لم يتمكن من الانتظار كثيراً في زاوية الدعوية حتى يلاقي القبول، بل وانطلق بسرعة الصوت نحو فكرة السلطة، وهذا هو الفاصل التاريخي الذي ميز الحركات الدعوية عبر التاريخ الا سلامي الطويل، وبين الاختباء تحت قبعة التقوى والصلاح فيما العين على كرسي السلطة، وليس على الزهد في طلبها حتى تطلبه هي أي السلطة.
من هنا كانت المرحلة الدعوية وسيلة مهمة لاحتلال العقل لو أنهم استمروا فيها، فقد سيطروا على نسبة لا يستهان بها، وهو طموح الإخوان المسلمين اليوم، والذين تحدثوا مراراً عقب أزماتهم وفشلهم عن الفصل بين ما هو دعوي وبين ما هو سياسي، غير أن التاريخ يقول في حال الإمة، إنه عقل عصي على الاحتلال، وهو قادر على النهوض من الحضيض على نقيض غيره من الأمم التي اندثرت بما دون ما تعرضت له المجتمعات العربية.
يبقى السؤال: هل من الممكن أن يحتل دعاة الفكر الإسلاموي عقل الأمة العربية بحيث يعيدون إنتاجها وفق مقاسهم، أم أن العقل الإسلاموي في مرحلة قريبة سيذهب نحو التفكك، ثم الاندثار، ولعل شاهدنا في الحركات الأصولية في السنوات الأخيرة، إذ لم تنجح في البقاء رغم تضخمها، ورغم الظروف التي منحت بعضها إمكانات غير متوفرة لدى بعض الدول العربية، لكن الشاهد بين هذا كله أن الإسلاموية بكل أطيافها ترتكز على زاوية معتمة في الكون، وأنها حالة يمكنها أن تستمر نظرية إلى أجل فقط، فهي حركات بمجرد امتلاكها السلطة لا تستطيع الإجابة على تساؤلات الناس، فتلجأ للقمع والبطش. فالإسلامويون يرون في كل من يناقضهم ليس خطراً آنياً فقط، ولكن هو خطر على الفكرة من أساسها، لهذا فإن كل الجماعات الإسلاموية أكثر من تخشاه هو الحوار، وهذا هو الفارق بين القدرة على الصمود من عدمه، فعند كافة الإسلامويين يريدون مجتمعاً يتحرك على شاكلة القطيع، لا يثير الأسئلة، ولا يبحث في استشراف المستقبل.