البحث عن اليوم التالي في غزة وغياب المكتب السياسي لحركة حماس عن الساحة الإعلامية المرئية، عاملان إضافيان يزيدان من تعقيد المشهد الفلسطيني، ما قد يبرر غياب الحوار الفلسطيني- الفلسطيني، ويترك تساؤلات كثيرة حول الشراكة السياسية في إدارة الملف الفلسطيني والتي كانت من الممكنات لو تراجعت حماس قبل الأوان عن كثير من المتطلبات. كان أولها إلغاء الدور السياسي للسلطة الفلسطينية في مفاوضات الرهائن وإنهاء الحرب، وهو ما أضعف الموقف الفلسطيني برمته.
ثم جاءت مطالبة حماس بعودة الأمور كاملة في غزة إلى ما قبل السابع من أكتوبر ضمن أي اتفاق لوقف الحرب، ما يعني عملياً استعادة حماس السلطة كاملة على غزة، وخروج الاحتلال واستعادة المعابر قبل التوقيع على أي اتفاق، وهو شرط أراح نتنياهو وبرر له إطالة أمد الحرب بحجة الضغط على حماس للحصول على تنازلات، وهنا كان عامل الوقت قاتلاً على صعيد المدنيين، الذين كان عليهم أن يدفعوا ثمن الحرب، لمصلحة طرفين لا يكترثان للنتائج الإنسانية المترتبة على الكارثة، بين حماس التي وضعت استعادتها للسلطة في غزة شرطاً لوقف الحرب، وبين تعنت نتنياهو الذي تعني له مسألة استمرار الحرب، مستقبله السياسي والمعنوي.
المفاوضات كانت بمجملها من المنظور الأمريكي والإسرائيلي مجرد "صفقة تبادل مقابل الرهائن" وليس الحديث عن اليوم التالي للحرب، على نقيض ما أرادته حماس منها، وهو الحصول على الضمانات الأمريكية لليوم التالي بعد الحرب، في الوقت الذي لم تكن فيه حماس تمتلك أية أوراق ضاغطة تستطيع أن تفرضها في طاولة المفاوضات سوى الرهائن أنفسهم، كما لم تكن تملك من ساحة المعركة سوى ورقة المدنيين، الذين تحولوا إلى كتلة من المعاناة في المشهد، ترافق ذلك مع خطاب شعبوي للمكتب السياسي للحركة، ذهب باتجاهين مختلفين، بين من يدفع باتجاه خروج الشعوب على حكامها وكأن الصراع في المنطقة مجرد حرب بين قبيلتين يمكن المساهمة فيها بأي أداة حادة، وبين من ذهب نحو تمجيد ما يسمى محور المقاومة، في لعبة صبيانية لا تحمل أدنى مقومات العمل السياسي، لأن هذه اللعبة لم تحترم تاريخ ومكانة الدول العربية التي احتضنت الشعب الفلسطيني منذ أربعينيات القرن الماضي.
كانت حماس تحلم بالتفاوض مع الأمريكان منذ سنوات طويلة، وبالتالي اعتبرت دخول الأمريكان في إدارة المفاوضات جعل حماس تعتقد أنها "غزوة سياسية" وتوهمت أن اتفاقاً بشروطها آت بلا ريب، ما يعني أن توقيع اتفاق اليوم التالي سيكون (اعترافاً أمريكياً بسلطة حماس كحالة قائمة) بينما توجست من دور السلطة الفلسطينية، ظناً منها أن الجلوس تحت عباءة السلطة سوف يسلبها غزة، وبالتالي نامت حماس على وهْم قل نظيره في العقل السياسي، ولم تتوقف الحرب، ولم يغادر نتنياهو غزة، ومع تعثر المفاوضات ومع إغلاق المكتب السياسي لحماس في قطر بشكل مؤقت أو ربما بشكل دائم، يكون الانسداد في الأفق السياسي وتفاقم الكارثة الإنسانية أمرين واقعين، وبالتالي ما استطاعت حماس أن تحصل على مطلبها في اليوم التالي للحرب والذي أصبح أكثر بعداً من قبل، خصوصاً مع ذهاب نتنياهو إلى لبنان، وبالتالي أصبحت المفاوضات في الشأن اللبناني فعالة، وجلست غزة بانتظار فرصة ثانية مؤجلة، فيما لا تزال حماس تصر وتقول إنها لن تتنازل عن مطالبها السابقة.
هنا تبدو معادلة الحوار الفلسطينية مختلة، خصوصاً مع توصيف الإدارة الأمريكية بعض قادة حماس ضمن دائرة العقوبات، والتي غالباً ستشمل آخرين لاحقاً، ما يعني أن الإدارة الأمريكية (غادرت ملف التفاوض مع حماس نحو ملف العقوبات) وبهذه الحالة، ومع تزاحم البحث عن موطئ قدم جديد يكون مقراً للمكتب السياسي لحماس، تبدو أيضاً هذه القيادة قد وقعت في دائرة جديدة من الضيق، وهي البحث من جديد عن شرعية سياسية للمكتب السياسي لحماس مع غياب الجغرافيا الحاضنة للمكتب، ما يعني "أن جسم الحركة السياسي والعسكري بات واحداً"، وبالتالي إن عودة حماس إلى تفعيل مكتبها في قطر وفق شروطها السابقة لن يعيد المفاوض الأمريكي لكي يبحث قصة اليوم التالي في غزة تحت مظلة حماس، وهنا أمام حماس أن تبقي الأمور عالقة كما هي، وهذا يتطلب منها غياب مكتبها السياسي عن الواجهة الإعلامية المكشوفة، ويعني أيضاً أن التواصل المباشر مع مكتب حماس السياسي سيكون غير متاح، وبالتالي لا حوارات فلسطينية- فلسطينية يشارك فيها قادة حماس الكبار.