محاولات إعادة تشكيل المنطقة.. الحرب فى سوريا نموذجًا

تشير القراءة الدقيقة لخريطة الصراعات المفتوحة فى المنطقة منذ بداية العقد السابق إلى أنه ليست هناك مفاجأة حقيقية فى عودة الصراع المسلح فى سوريا. ولقد طرحت بصحيفة الحياة الدولية بدايات عام ٢٠١٨- وقبل توقف هذه الصحيفة المتميزة- مقالًا حول بطء تسوية صراعات المنطقة، وأعدت طرحه هنا وفى مواضع أخرى عديدة، وملخص هذا الطرح أن هذه الصراعات فى سوريا وليبيا واليمن ولبنان وطبعًا فلسطين، واليوم فى السودان أيضًا، هى جزء من مشهد الصراع الدولى والإقليمى، وأنه لم يكن بمقدور طرف دولى أو إقليمى فى السابق حسم أى ساحة لصالحه، ومن ثَمَّ يتم تجميد هذه الساحة أو تلك لحين تغير التوازنات واستئناف طرق الحسم سياسيًّا وأساسًا عسكريًّا فى التوقيت المناسب.

والمسألة تحولت منذ سنوات عديدة إلى سعى كل طرف إقليمى ودولى، وتحديدًا واشنطن وموسكو، للاحتفاظ بالأوراق والمكاسب التى حققها، حتى لو تراجع أو تقهقر، ومحاولة حرمان الخصم، الذى حقق نجاحًا أكبر، من إعلان النصر الكامل، والقوى الإقليمية هنا، وهى الأطراف الرئيسة فى كل هذه الحالات، هى إيران وتركيا وإسرائيل.

وفى حالة سوريا تحديدًا حققت روسيا وإيران وأدواتها انتصارًا كبيرًا منذ التدخل الروسى عام ٢٠١٥، ولكنها لم تستطع الحسم النهائى بسبب ورقتين كبيرتين، الأولى الوجود العسكرى الأمريكى، الممثل فى عدة قواعد عسكرية صغيرة بإجمالى قوات تتفاوت تقديراتها، ولا تزيد على ألفين، ولكنها مُحاطَة بقوات ميليشيا سورية الديمقراطية الكردية التى تسيطر على مناطق فى شمال شرق البلاد، ومن ثَمَّ شكلت ما سميته فيتو أمريكى على إمكانية استكمال روسيا وحلفائها مهمة السيطرة على كامل البلاد، ثم الأخطر الجيب الشمالى الغربى فى محافظة إدلب الحدودية مع تركيا، وكثيف السكان، الذى هربت إليه الميليشيات المتطرفة وفلول جيش سوريا الحرة المنشقة عن الجيش السورى والتابعة لأنقرة، والتى تشكل ورقة أنقرة أيضًا للتواجد فى الساحة السورية، وقد أطلقت منذ سنوات على إدلب مخزن تركيا لتصدير التطرف والنفوذ فى المنطقة، والذى منه انطلقت لإغاثة الميليشيات المتطرفة فى غرب ليبيا ومنع سقوطها عند معركة حصار طرابلس.

إذا كانت جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، والتى سمت نفسها جبهة أحرار الشام منذ سنوات، قد انتهزت فرصة الضربات التى تعرضت لها إيران وحزب الله، وانشغال روسيا فى أوكرانيا، وحصلت على الضوء الأخضر التركى والإسرائيلى والغربى أيضًا للاندفاع وإعادة تنشيط المواجهة العسكرية مرة أخرى، فهذا إذن أمر طبيعى ومنتظر، ليس فقط لأن نظام الرئيس الأسد لم يقم بالإصلاحات المطلوبة، وإنما لأن الصراع أصلًا لم يكن قد حُسم، فقد تقهقرت هذه الميليشيات، منتظرة الأوامر واللحظة المناسبة، وقد جاءت بشكل واضح مع الأحداث الأخيرة.

وكشف تصارع الأحداث، وسهولة سقوط النظام، أنه أخطأ تقدير النصر المؤقت السابق، وأدار الأمور بشكل أخرق، فهو لم يلتزم بتعهداته، فقد أعلن النصر مبكرًا، وأساء فهم الواقعية التى انتهجتها الدول العربية، ولم يقم بعملية إصلاح بالمعنى الشامل، كما أن ربما كان الأخطر عدم احتواء ملف النازحين وإعادة هؤلاء الملايين إلى بلادهم بالشكل اللائق والمناسب، بل صدرت تصريحات سورية غير مقبولة على الإطلاق تتشكك فى وطنية هؤلاء الملايين وتلقى بظلال من الشك حول استعدادها لعودتهم.

ومن ناحية أخرى، نحن أمام التباس كبير فيما يتعلق بالمصالحة، فمع مَن؟!، فقوى المعارضة الخارجية، وحتى الداخلية، أغلبها لا علاقة لها بميليشيات المعارضة المسلحة التى عادت إلى الصورة، بل ربما نذهب إلى القول إنه حتى لو تمت المصالحة السياسية واحتواء هذه المعارضة، فمَن سيستطيع السيطرة على هذه الميليشيات؟. نحن أمام مستقبل معقد ستلعب فيه تركيا أساسًا دورًا رئيسًا فى إيجاد مخرج وترتيبات سياسية، وكأن هذه جولة نهائية فازت فيها أنقرة وتل أبيب على حساب إيران- التى خسرت بضربة قاضية- وليس واضحًا مدى مساحة الحركة لكل من واشنطن وموسكو أو للأطراف العربية الأخرى.

وتترتب على هذا التفسير عدة خلاصات، منها مسألة مواقف القوى الإقليمية المتنافسة، وهى إسرائيل وإيران وتركيا ومعها الولايات المتحدة وروسيا، وأنه جميعًا رغم أهمية قنوات الحوار والتفاعل الإيجابى معها تمارس لعبة النفوذ والسيطرة الإقليمية ببرود وقسوة تتجاهل بشكل كبير مصالح شعوب المنطقة، وقد تمتد تأثيراتها السلبية عليها بدورها فى مراحل تالية، وعمومًا من الواضح من شكل السيناريو الذى جرى فى سوريا أن هناك تفاهمات بين هذه الأطراف على حساب إيران بهذا الصدد، ومعنى هذا أن المواجهة- الدبلوماسية- يجب أن تكون حاسمة وصريحة فى التفاعل معها بهذا الصدد.

الأمر الثانى أن الدعم السياسى العربى لوحدة الأراضى السورية يجب أن يكون حاسمًا الآن لوقف تدهور الموقف بشكل قد تكون له ارتدادات إقليمية تصعب السيطرة عليها، وأن يكون مصحوبًا برسالة واضحة أن هذا الدعم مقابل تجاوب كبير مع احتواء المناخ السلبى داخل البلاد، وخاصة مسألة النازحين، وأن هذا أيضًا لمصلحة تركيا فى الملف الكردى، وأن سوريا المتماسكة مطلب ضرورى لإنهاء مبررات التواجد الأجنبى كله دون استثناء.

الخلاصة الثالثة أن الصراعات الممتدة فى المنطقة، والتى لم تغلق حتى الآن، كليبيا واليمن، مرشحة لعودة الأبعاد المسلحة، وأنه فى ظل السيولة والتحولات يجب عدم الاطمئنان إلى حالة الركود والجمود، بل يجب البحث عن حلول جذرية وحسم هذه الصراعات.

المصري اليوم

يقرأون الآن