لبنان

هل دخلنا مرحلة انتزاع المودعين حقوقهم بأيديهم؟

هل دخلنا مرحلة انتزاع المودعين حقوقهم بأيديهم؟

شهد يوم الجمعة الماضي تصعيداً متوقَّعاً على جبهة الأفق المسدود بين المصارف والمودعين. يوم الاقتحامات أفضى إلى حصول بعض المودعين «المقتحمين» على جزء من ودائعهم وخروج من خَرَج منهم بخفّي حنين. فكيف يشرح القانون ما حصل وإلى أين تذهب الأمور من هنا؟

ليل الجمعة، أصدر النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، استنابة قضائية لكل الأجهزة الأمنية بملاحقة الأعمال الجرمية المرتكبة داخل المصارف والعمل على توقيف المرتكبين والمحرّضين وإحالتهم لديه، كما الكشف عن مدى ارتباط هذه الأفعال ببعضها، باعتبارها تشكّل عمليات سطو مسلّح غايتها توقيف العمل المصرفي وإحداث المزيد من الأزمات. استنابة جرى تعمّد تسريب مضمونها إلى الوكالة الوطنية للإعلام، في حين أبلغ المحامي العام التمييزي مضمونها إلى مجلس الأمن المركزي لبحث الإجراءات الموجب اتّخاذها. لِنَعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء.

في 10 آذار 2020، اجتمع في مكتب النائب العام التمييزي عدد من قضاة النيابات العامة مع وفد من جمعية المصارف تقدّمهم رئيسها، سليم صفير، بغياب أي من المودعين. الاجتماع أسفر عنه وضع محضر اتفاق علماً أن دور النيابات العامة فتح محاضر تحقيق مع المرتكبين وليس صياغة محضر اتفاق. أما عنوان اللقاء فكان «إيجاد حلّ لحماية المودعين وتأمين سلامة القطاع المصرفي»، علماً أيضاً أن تنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين ليس من صلاحية النيابة العامة التمييزية بأي حال من الأحوال. بعدها تم إصدار تعاميم وإجراءات لمصلحة المصارف وجمعيتهم عبر حاكم مصرف لبنان، هي بكلّيتها مخالفة للقانون بحسب عدة أحكام قضائية صادرة. ومن هنا نفهم أسباب الإصرار والرغبة في إقرار قانون الكابيتال كونترول بمفعول رجعي، تغطية للعبث القانوني الذي مارسته المصارف بحق المودعين.

ذلك الاجتماع سبقه صدور إشارة من قِبَل النائب العام المالي في 5 آذار 2020 على خلفية شكوى تتعلّق بالتحويلات التي قام بها بعض النافذين إلى الخارج، مانعاً 20 مصرفاً محلياً وأعضاء مجالس إدارتها من التصرّف بأموالهم مع تكليف الدوائر المختصّة بتنفيذ مضمون الإشارة. فما كان من النائب العام التمييزي إلّا أن قام بتجميد مفاعيل تلك الإشارة في اليوم نفسه، بحجة أن المصلحة العامة تفترض ذلك. تغطية أخرى على الممارسات المصرفية التعسّفية.

الاستنابة موضوع حديثنا تأتي بعد عامين ونصف على محضر الاتفاق أعلاه. فإلامَ غمز عويدات في استنابته؟ هل المقصود بالمحرّضين المحامين الذين يدافعون عن أصحاب الودائع؟ وهل عبارة «سطو مسلّح» تنطبق قانوناً على الحالات التي شهدناها مؤخراً في المصارف؟

ردّ المعروف؟

أحد الوكلاء القانونيين لعبد الله الساعي - المودع الأول الذي اقتحم في كانون الثاني الماضي بنك بيروت والبلاد العربية في منطقة جب جنين، متمكّناً من الحصول على وديعته البالغة 50 ألف دولار - المحامي واصف الحركة، يقول لـ»نداء الوطن»: «يتكلّم القاضي عويدات عن وجود محرّضين وكأنه غائب عن مشاكل البلد. ليس الناس بحاجة لتحريض، بل هم يدافعون عن أنفسهم. الجرم الحقيقي هو ما قامت به السلطة بسرقتها البلد وودائع الشعب». طبيعي أن يقوم الإنسان بـ»الدفاع المشروع عن نفسه». وبديهي أن يتوجّه لتحصيل حقه بيده في بلد يأتمر فيه قضاة كثيرون من سياسيين هم بدورهم أصحاب مصارف أو شركاء فيها. ولو كان هناك قضاء فاعل حاسب منذ البداية من بدّد الودائع، لما كان مشهد الاقتحامات ليتكرّر، بحسب الحركة الذي يضيف: «ما المطلوب من شعب يبحث عن لقمة عيشه؟ إذا هنّي منّا فارقة معن، لن نسمح لإنسان مُتخم بالتنظير على من دهمه الجوع بالصبر. من غير المقبول ترك الجاني حرّاً طليقاً والاشتراط على أهل المجني عليه كيف يبكون».

نسأل عن خلفيات الاستنابة القضائية، فيجيب: «أصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان والسياسيون قدّموا خدمات جمّة للقضاة من تعيينات وتوظيفات، وحان الوقت المناسب ليردّ هؤلاء المعروف. هذا هو حجم الموضوع بكل بساطة».

ملف عبدالله الساعي أُغلق بعد رضوخ المصرف وتوقيعه تنازلاً عن الدعوى. أما قرار إغلاق المصارف لثلاثة أيام (بدءاً من اليوم) وتداعياته، فاعتبره الحركة أحد الأدوات التي تستخدمها المنظومة لابتزاز الناس: إما الرضوخ للأمر الواقع أو اللجوء لكسر إرادة الشعب. «فلنفترض أنه تمّ الاعتداء على المصارف، فهل لهم أن يخبرونا لِمَ لَم يتحرّك أحد حين هي اعتدت على ودائع الناس؟»، يستغرب الحركة خاتماً ومؤكّداً استمراره مع زملائه في مؤازرة الناس مهما كانت التكلفة، حتى لو وُصفوا بالمحرّضين.

لحظة انفجار كل شيء

ننتقل إلى علي عباس، وكيل سالي حافظ ورفيقيها الموقوفَين، محمد رستم وعبد الرحمن زكريا. بالنسبة لعباس، ما يحصل في المصارف هو نتيجة تراكمات في ظلّ غياب قانون ينظم العلاقة بين المودعين والمصارف. «لا مساواة بين المودعين، فأصحاب النفوذ يهرّبون أموالهم في حين أن الآخرين يخضعون لـ»هيركات» غير قانوني، مع الإشارة إلى أن كل التعاميم التي صدرت لا تستند إلى القانون». وهنا مصدر التشنّج، بحسب رأيه، مضافاً إليه غياب، أو سكوت، القضاء الحاسم لما له من دور يلعبه على هذا الصعيد.

لكن لِمَ الانفجار الآن بالتحديد؟ «لم يبقَ أمام المودع سوى هذه الوسيلة خاصة بعد إضراب القضاة. هناك دوماً لحظة ما تُفجّر كل شيء حيث يطوف الكوب من نقطة ماء. كما أن أيلول هو شهر الاستحقاقات المعيشية. المواطن تنقصه أحياناً الجرأة، لكن تعاطف الرأي العام والإعلام مع سالي والنفحة الثورية التي دخلت بها إلى المصرف حفّزا آخرين على أن يحذوا حذوها»، برأي عباس.

أما عن الإشارة إلى وجود محرّضين وارتباط الأفعال ببعضها، فيقول عباس: «ما يحصل ليس جريمة بل مواجهة لجريمة العصر. ما شهدناه كان متوقَّعاً بسبب عجرفة المصارف. لكن هل للقاضي عويدات أن يخبرنا ما الذي يجمع ملازماً أول في الجيش مع مودع من الطريق الجديدة؟ الكلام عن تحريض وترابط أحداث غير منطقي ولا يمكن إقامة دولة بوليسية على شعب لم يبقَ لديه ما يخسره».

عن أسباب عدم توقيف سالي حتى الساعة، أشار عباس إلى أنها ارتأت التواري عن الأنظار باعتبار أن ما قامت به ليس جريمة تحتّم عليها تسليم نفسها. هذا خيارها ويتمّ العمل على وضع خطة قانونية لمواجهة بلاغ البحث والتحرّي بحقّها. أما عن رفيقيها الموقوفين، «فعلمنا أنه في حال تسليم سالي نفسها يتمّ إخلاء سبيلهما، لكن تبيّن لاحقاً أنها محاولة لـ»جرجرة» الجميع. نحن لا نقبل الابتزاز، والموقوفان لم يرتكبا أي جرم حسب ما تؤكّد تسجيلات الفيديو. لا تبرير لتوقيفهما ولا نريدهما كبش محرقة»، من وجهة نظره.

ثمة خياران، كما يقول. إما أن يُطلَق سراحهما بعد تخطّي مهلة التوقيف الاحتياطي أو إحالتهما إلى التحقيق من خلال مذكّرة توقيف. لكن عباس يرجّح تحويلهما عند قاضي التحقيق الأول ليخلي سبيلهما بدلاً من القاضي عويدات كون الأخير أصبح محرَجاً بمحصّلة الاستنابة التي أصدرها. وينهي: «لن نقبل استخدام قضاة محسوبين على المنظومة كي يكملوا أجندة الأخيرة التي سحقت الناس مقابل الحفاظ على المناصب».

ما وراء الاستنابة

نعود إلى الاستنابة القضائية وتفسيراتها القانونية. منسّق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي لمحاربة الفساد، المحامي جاد طعمة، رأى في حديث لـ»نداء الوطن» أن الاستنابة تكرّس واقع الحماية الذي تقوم به النيابة العامة التمييزية تجاه جمعية المصارف وأعضاء مجلس الإدارة بحجة المصلحة العامة منذ بداية الأزمة. «فهي لا تتضمن أي مراعاة أو تفهّم لأوجاع المودعين الذين يتعرّضون منذ عامين ونصف لأقسى أنواع الإذلال من قِبَل القطاع المصرفي. كما لم تلحظ الجرائم التي ارتكبتها المصارف بحق المودعين، أقلّه حين سرقت ودائعهم وعوّضت عليهم بالنزر اليسير على سعر صرف لكل دولار مودع في الحساب بعيد تماماً عن الواقع ضمن سياسة ليلرة الحسابات»، على حدّ تعبير طعمة.

الفوضى القائمة تصب في مصلحة جهتين: القطاع المصرفي الذي راكم أرباحه في خضم الأزمة على حساب معاناة الناس، والدولة التي خفّضت المديونية العامة من خلال اللعب على فرق سعر الصرف، علماً أن كل خطط التعافي الاقتصادي المقترحة من الدولة أو الهيئات الاقتصادية أو المصارف تأتي على حساب ودائع الناس. ومن جهة أخرى، تبيّن أن المودعين الذين اقتحموا المصارف لا تتخطى ودائعهم في حدّها الأقصى 200 ألف دولار، وبالتالي لا يمكن لهؤلاء أن يشكّلوا خطراً على سائر المودعين كما حاول وزير الداخلية الإيحاء لتحريض المودعين ووضعهم وجهاً لوجه. «الخطر الفعلي الذي يحتاج لمراجل الوزراء وقضاة السلطة يكمن في كشف هوية من هرّب ملايين الدولارات وخفايا الاستثمار بشراء سندات اليوروبوندز ومن اتخذ القرار بعدم دفع قيمتها وقت الاستحقاق ومن تسبّب بالأزمة واستغلّها لتحقيق أرباح خيالية على حساب المال العام أولاً والمودعين ثانياً. يبدو أن النيابة العامة التمييزية تحتاج إلى صدمة كهربائية لتقدير من هو المجرم المقترِف الذي يسطو على أموال الناس، ومن هو الذي يدخل المصارف بعد أن ضاقت به سبل توفير لقمة العيش في ظل اعتكاف القضاء واستنكافه عن إحقاق الحق. فلِمَن يلجأ المودع المتضرّر؟»، يتساءل طعمة.

نستفسر إن كانت الاقتحامات تندرج تحت مسمّى «السطو المسلّح» كما ورد في الاستنابة، فيوضح طعمة أن «التصنيف القانوني لما يحصل مع أصحاب الودائع هو، عملياً، «استيفاء الحق بالذات». أما موضوع السطو المسلّح فيحتمل الكثير من الأخذ والرد، لا سيّما أن ذلك يفترض وجود سلاح حقيقي في حين يظهر واضحاً أن الأسلحة المستخدمة مزيّفة بالمجمل». النيابة العامة تحاول، على ما يبدو، الإيحاء بأن ثمة جناية تُرتكب هنا، ترهيباً للناس وردعاً لهم عن المتابعة في هذا المسار، متناسية تبعات الاعتكاف القضائي والأحكام القانونية المتعلّقة بحالة الضرورة والدفاع المشروع عن النفس.

للضرورة أحكام

ما هو مآل هذا الكباش؟ «لا يمكننا بالطبع أن نشجّع على استمرار استيفاء الحق بالذات، ونأمل عدم دفع المودعين لتكرار هذه المشاهد. لكن ذلك يتطلّب إيجاد إطار قانوني منطقي توافقي يحمي حقوق الناس ويسمح لهم باسترداد ودائعهم بقيمتها الفعلية وبعملة الإيداع». ويذكّر طعمة من يتكلّم عن جرائم يرتكبها المودعون، أياً كان نوعها أو توصيفها، أننا نواجه أيضاً إجراءات مصرفية ينطبق عليها الوصف الجرمي وهي ما زالت غير ملاحقة من قِبَل النيابات العامة تحت حجة الحفاظ على القطاع المصرفي الذي تصنّفه النيابة العامة التمييزية مصلحة عامة. على الأخيرة أن تحسم خيارها بعد مرور أكثر من سنتين على الأزمة ومهلة السماح القضائية للمصارف: إما أن تقاضي الشعب الذي سيتحرّك برمّته باتجاه استرداد ودائعه أو أن تفرض على المصارف التراجع عن تصرفاتها التعسّفية والخروج بحل عادل لا يغتصب حقوق المودعين.

وإذ أشار إلى أن استيفاء الحق بالذات لا يمكن أن يستتبع إصدار قرار بردّ صاحب الوديعة لوديعته، حيث أنه لم يسرق مالاً بل حصل على حقه، ختم طعمة: «لنتذكّر أن العلاقة بين المصارف والمودعين يحكمها عقد. والعقد قانوناً يُعتبر شريعة المتعاقدين، وما تتوافق عليه إرادتان لا يمكن أن تغيّره إرادة منفردة. تعثّر المصارف ليس، بأي حال، سبباً ليُفرض على المودع واقع عدم استرداده وديعته، خاصة أن الأزمة ناجمة عن قرار مجالس إدارة المصارف توظيف الأموال في الديون البغيضة، أي عالية المخاطر».

كارين عبد النور - نداء الوطن

يقرأون الآن