البراغماتية تحكم الغرب. المصالح تقود سياسات الدول الخارجية. المتحدث باسم الخارجية الأمريكية قال إن بلاده قد تغير تصنيف هيئة تحرير الشام، (التى تحكم سوريا الآن)، كمنظمة إرهابية. وأضاف: «سمعناهم يقولون أشياء صحيحة حول الإدماج ودفع العملية السياسية للأمام. نريد إجراء محادثات مع المجموعات الرئيسية داخل سوريا». هناك تقارير عن تفكير أمريكى فى رفع اسم زعيم الهيئة، أحمد الشرع، المعروف باسم «الجولانى»، من قائمة المطلوبين الإرهابيين. بريطانيا سمحت برفع علم المعارضة على السفارة السورية فى لندن. مسؤول بريطانى قال: «يجب عدم التخلى عن سوريا حتى لا تعود إلى الحرب الأهلية».
فرنسا وألمانيا أوضحتا أن موقفهما من هيئة تحرير الشام يعتمد على تعاملها مع الأقليات. لم ترفض الدولتان من البداية التعامل مع الهيئة. السياسة فن الممكن والواقع، وليس ما ينبغى أن يكون. لو رفضت حكومة ما الاعتراف أو التعامل مع الحكام الجدد فى سوريا، فهى تُبعد نفسها عن التأثير فى المشهد السورى، الذى يتكالب عليه كثيرون ويريدون فيه موطئ قدم.
ترك سوريا دون ظهير عربى من شأنه ارتماؤها أكثر فى الحُضن التركى، كما كانت قبل ذلك فى الحُضن الإيرانى. أردوغان لديه خطط كثيرة لا يخفيها بشأن العلاقة مع سوريا، وهو يريد أن تكون له اليد العليا لأنه دعم الفصائل المسلحة الرئيسية التى أسقطت نظام البعث الزائل بقيادة بشار الأسد. فى ظل الغياب العربى الفاعل، فإن إسرائيل ستجعل سوريا ساحة مستباحة، وهى بالفعل تقوم حاليًا بتغيير الوقائع على الأرض. سوريا أمامها الكثير من الوقت حتى تستقر. الفراغ السياسى والعسكرى الراهن بعد تفكك الجيش السورى، كما يقول الكاتب البريطانى سايمون تسيدال، ستحاول أن تشغله ميليشيات مسلحة تسعى لتحقيق مصلحتها على حساب مبادئ العدالة والمصالحة وحرية الناس. الأخطر أن روح الانتقام لدى أفراد هذه الجماعات نتيجة سنوات القمع والفتك، التى مارسها النظام السورى السابق، لا يمكن أن تنتهى بين يوم وليلة.
للأسف، فإن الهدف الذى وحد الحكام الجدد فى سوريا كان التخلص من النظام. الخلافات العقائدية والسياسية والولاءات للقوى الأجنبية شديدة وعنيفة. كما أن الفسيفساء السورى، متعدد الأعراق والأديان والأيديولوجيات، لن يجعل الوصول إلى سوريا الجديدة، التى تأملها النخبة الفكرية والثقافية، سهلًا. على سبيل المثال، ما نظرة الحكم الجديد إلى الطائفة العلوية التى تمثل ١٥٪ من السكان، وكيف سيتم التعامل معها؟، وما تصور قيادات تلك الطائفة، التى حكمت البلاد منذ ١٩٧٠ حتى أيام قليلة خلت، لدورها المستقبلى؟. أيضًا، هل يعود الأكراد إلى حديث الانفصال، أم يصبحون جزءًا من تركيبة الحكم؟. هذه ليست نظرة تشاؤمية أو إفسادًا للفرحة الصادقة التى يستحقها الشعب السورى، لكنها حرص على نجاح الثورة، ودعوة إلى العرب ألا يتركوا سوريا وحيدة فى هذه الأوقات العصيبة التى تمر بها. ولابد من أن ندرك كعرب أنه ليس هناك خيار جيد على طول الخط للمستقبل السورى، لكن أفضل السيناريوهات، كما يقول ريتشارد لوبارون، السفير والدبلوماسى الأمريكى السابق بالمنطقة، هو أن تسير الأمور بشكل هادئ دون أن يمنع ذلك الفصائل من القتال فيما بينها فى مناطق محددة للإبقاء على مصالحها. أما أسوأ السيناريوهات فهو دخول الفصائل فى معارك شاملة، مما يؤدى إلى انهيار الدولة وعودة الحرب الأهلية. ليس غريبًا أن صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية نشرت تقريرًا ادّعَت فيه أن عصر السلطة الواحدة، التى تسيطر على كامل التراب السورى، انتهى. السنوات الماضية منذ دخول البلاد فى أتون حرب أهلية عقب قمع الثورة السورية ٢٠١١، كان التواجد العربى هامشيًّا بالقياس إلى الأدوار الإيرانية والتركية والأمريكية والروسية. وللأمانة، فإن النظام السابق لعب دورًا مهمًّا فى هذا الغياب العربى، بل أمعن فى رفض المبادرات العربية لإعادة دمشق إلى الصف العربى لأنه حسم خياراته، واعتمد تمامًا على إيران وروسيا. وبدَت له العروبة التى طالما تشدق بها مجرد كلمات ينطق بها دون أن يكون لها تأثير على الواقع. لا ينبغى أن تشهد الفترة المقبلة ابتعادًا عربيًّا عن سوريا لأن العرب جميعًا خاسرون من هذا الابتعاد.
أُدرك أن دولًا عربية عديدة ليست مرتاحة للحكام الجدد الذين عليهم أن يبرهنوا أنهم تغيروا عما كانوا فى المعارضة. لكن سوريا الدولة والشعب فى أشد الحاجة إلى الدعم العربى. لماذا لا تدعو الجامعة العربية أو مصر إلى مؤتمر جامع للمصالحة الشاملة بين الفرقاء السوريين؟. يقول محمود درويش، فى قصيدة لماذا تركت الحصان وحيدًا؟: «البيوت تموت إذا غاب سكانها». وسوريا لن تكون بخير إذا غاب العرب عنها.
المصري اليوم