في عالم تتزايد فيه التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية، أصبح من الضروري أن يتجاوز الاستثمار مجرد العوائد المالية السريعة ليأخذ بعين الاعتبار التأثيرات البيئية والاجتماعية التي تترتب عليه. ومن هنا، برزت معايير الـESG (البيئة، والمسؤولية الاجتماعية، والحوكمة) كأداة مهمة لتقييم الاستثمارات واتخاذ القرارات المالية المستدامة؛ فمبادئ الـESG تهدف إلى تحقيق توازن بين النجاح الاقتصادي والالتزام بالقيم البيئية والاجتماعية؛ ما يعزز استدامة الاستثمارات على المدى الطويل.
ولم يَعُد مفهوم الـESG مجرد إطار نظري أو توجه اختياري، بل تطور ليصبح مجموعة من الآليات العملية التي تحولت إلى شهادات معتمدة تُلزم الشركات والدول بالامتثال لها. هذا التحول يعكس الضغوط المتزايدة من المجتمع الدولي لتعزيز الالتزام بمعايير الاستدامة وتحقيق أهداف بيئية واجتماعية وحوكمة واضحة؛ مما جعل من الـESG جزءاً أساسياً من استراتيجيات العمل والاستثمار على مستوى العالم.
وفي هذا المقال، سنتناول كيف تَشكَّل هذا المفهوم، ونستعرض تأثيره على استراتيجيات الاستثمار، بالإضافة إلى التحديات والفرص التي يواجهها في مختلف أنحاء العالم.
بشكل عام، يشير مفهوم الـESG إلى ثلاثة محاور رئيسية تُستخدَم لقياس التأثير المستدام والاجتماعي للاستثمارات:
• البيئة (Environmental): تتعلق بتأثير الشركات على البيئة، مثل الانبعاثات الكربونية، واستخدام الطاقة، وإدارة النفايات، والتأثير على التنوع البيولوجي.
• المسؤولية الاجتماعية (Social): تركز على العلاقات مع المنشآت والموظفين والمجتمع، بما في ذلك ظروف العمل، والمساواة في الفرص، واحترام حقوق الإنسان.
• الحوكمة (Governance): تشمل الهيكل التنظيمي للشركات، والشفافية، والالتزام بالقوانين والمعايير، والسياسات المتعلقة بمكافحة الفساد.
وكانت بداية ظهور هذا المفهوم في فترة السبعينيات والثمانينيات؛ حين ظهرت بعض المحاولات الأولية لإدخال معايير الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية في الاستثمارات، خاصةً بعد ظهور عدد من القضايا البيئية الكبرى، مثل التسريبات النفطية، والمخاوف من التلوث الصناعي. وأخذ هذا المفهوم يتوسع في فترة التسعينيات مع نمو حركة المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) التي شجعت الشركات على تبني سياسات أكثر شفافية وعدالة فيما يتعلق بالعاملين والمجتمعات التي تعمل بها. وفي عام 2004 تم إطلاق المبادرة الأبرز من قِبل الأمم المتحدة من خلال تقرير بعنوان "من يهتم يَفُز" (Who Cares Wins) الذي دعا المؤسسات المالية إلى إدماج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في عملياتهم الاستثمارية.
ومع الوقت، انتشر تبني معايير الــESG بسبب تحديات متعددة، أبرزها القلق العالمي من التغير المناخي والكوارث البيئية التي دفعت الشركات والحكومات إلى اعتماد سياسات تقلل المخاطر البيئية، وازدياد الوعي المجتمعي بحقوق الإنسان والعمال، كما ساهمت الأزمات المالية، مثل حادثة الانهيار الشهير لشركة "إنرون" الأميركية، في إظهار الحاجة إلى تحسين الحوكمة وتعزيز الشفافية. ودعمت السياسات الدولية من قِبل الأمم المتحدة التشريعات التي حاولت تأطير وإدماج معايير الاستدامة في الممارسات التجارية. وتُقدَّر الاستثمارات العالمية المتوافقة مع معايير الــESG بما يزيد على 35 تريليون دولار.
وهناك العديد من الأمثلة التي غيرت فيها بعض الدول سياساتها الاستثمارية لأنها لم تكن متوافقة مع مبادئ الــESG؛ فعلى سبيل المثال، قام صندوق الثروة السيادي النرويجي –ويعد أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم– بتصفية استثماراته في عدة شركات بسبب عدم توافقها مع المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، وقرر في عام 2015 تصفية استثماراته من الشركات التي تعتمد بشكل رئيسي على الفحم مصدراً للطاقة؛ بسبب الأثر السلبي على البيئة. وفي عام 2019، أُعلن أن الصندوق سيتخارج من استثمارات في شركات التنقيب عن النفط، في خطوة تهدف إلى تقليل التعرض للمخاطر البيئية وتعزيز الاستدامة.
وفي الاتحاد الأوروبي، تم وضع أطر تشريعية لتوجيه الاستثمارات نحو مشاريع مستدامة، مثل اللائحة المتعلقة بالإفصاح المستدام (SFDR)، وهي اختصار لـSustainable Finance Disclosure Regulation، أي لائحة الإفصاح عن التمويل المستدام، وهي مجموعة من اللوائح التي أصدرها الاتحاد الأوروبي بهدف تعزيز الشفافية. هذا الإطار دفع بعض الدول والشركات الأوروبية إلى إعادة تقييم مشاريعها الاستثمارية، وحدا العديد منها إلى إيقاف تمويل مشاريع محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا؛ بهدف تحقيق أهداف خفض الانبعاثات الكربونية، كما فرض الاتحاد الأوروبي قيوداً على البنوك والشركات المالية لتحديد مدى توافق منتجاتها مع معايير الـESG. نتيجةً لذلك، قامت العديد من البنوك بتقليص أو وقف تمويل مشاريع قد تؤثر سلباً على البيئة والسعي نحو الالتزام بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحد من الانبعاثات الكربونية.
وفي المملكة تقوم الجهات ذات العلاقة بتبني عدد من المبادرات التي تتوافق مع معايير ESG، ومن أبرزها صندوق الاستثمارات العامة؛ حيث أعلن الصندوق في عام 2022 عن إطار عمل للحوكمة البيئية والاجتماعية بهدف تحقيق عوائد استثمارية مستدامة، والتزامه بتطبيق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) لتعزيز الاستدامة في استثماراته؛ حيث يهدف هذا الإطار إلى إدماج معايير ESG في عمليات الصندوق الاستثمارية، وحصل الصندوق على المرتبة الثانية عالمياً والأولى في الشرق الأوسط ضمن تصنيفات الحوكمة والاستدامة والمرونة العالمية من مؤسسة Global SWF، وهي مؤسسة متخصصة في تحليل ودراسة صناديق الثروة السيادية (Sovereign Wealth Funds) وصناديق التقاعد العامة حول العالم، وتُقدم تقارير وأبحاثاً معمقة حول أداء هذه الصناديق، واستراتيجياتها الاستثمارية، ومستوى التزامها بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG).
كما تم الإعلان عن مبادرة السعودية الخضراء في مارس 2021 كجزء من رؤية المملكة 2030 لتعزيز التنمية المستدامة وحماية البيئة، وأنيطت مسؤولية تنفيذ هذه المبادرة بوزارة الطاقة بالتعاون مع وزارة البيئة والمياه والزراعة وصندوق الاستثمارات العامة؛ لضمان تحقيق أهداف المبادرة على كافة المستويات. وتهدف المبادرة إلى الحد من الانبعاثات الكربونية؛ حيث تسعى إلى تقليلها بمقدار 278 مليون طن سنوياً بحلول عام 2030، وتحقيق تحول نحو الطاقة المتجددة لتوفير 50% من احتياجات المملكة من الكهرباء، كما تعمل المبادرة على زيادة الغطاء النباتي من خلال زراعة 10 مليارات شجرة، وتحسين جودة الهواء والتنوع البيئي، وحماية الأراضي والبحار عبر تخصيص 30% من أراضي المملكة كمناطق محمية. وتعتمد مبادرة السعودية الخضراء على سياسات شفافة لضمان المصداقية والمساءلة في تنفيذ الأهداف.
وعلى الرغم من انتشار مفهوم ESG لتعزيز الاستدامة، فإن هناك آراء مغايرة وانتقادات تواجهه؛ أبرزها عدم وجود معايير موحدة لتقييم الأداء؛ ما يؤدي إلى تفاوت كبير في التصنيفات، وصعوبة مقارنة الشركات، كما يُتهم بعض الشركات بممارسة "الغسل الأخضر" (Greenwashing)؛ حيث تُروج لالتزامها دون تحقيق تأثير حقيقي. يُثار أيضاً أن التركيز المفرط على مفهوم الـــESG قد يؤدي إلى التضحية بالأرباح القصيرة والمتوسطة الأجل، أو تحميل الشركات تكاليف باهظة بدون معرفة الأثر الحقيقي من تطبيق معايير الــESG، كما أن هناك انتقادات حول عدم وضوح العوائد الاستثمارية لهذه الاستثمارات؛ مما يثير تحفظات العديد من المستثمرين.
وعلى الرغم من الانتقادات، فإن مفهوم الــESG يمثل نقطة تحول في الوعي حيال الطريقة التي تُدار بها الاستثمارات؛ حيث يحفز على محاولة الموازنة بين العوائد المالية والمساهمة في تحقيق الأهداف البيئية والاجتماعية وتعزيز الحوكمة، إلا أن نجاح تطبيقه يتطلب معالجة التحديات المتعلقة بالمعايير الموحدة، ودقة احتسابها، والشفافية لضمان مصداقية الالتزام. في المملكة العربية السعودية، تمثل الجهود المبذولة في هذا المجال مثالاً يُحتذى به؛ حيث تتبنى المملكة مبادرات طموحة، مثل مبادرة السعودية الخضراء، والتزام صندوق الاستثمارات العامة بمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية؛ مما يضع المملكة في طليعة الدول الملتزمة بتحقيق التنمية المستدامة.
ومن ناحية أخرى، تشهد الساحة العالمية العديد من المتغيرات، خاصةً مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الحكم؛ بحيث يُتوقع أن تشهد السياسات البيئية تحولاً ملحوظاً. خلال فترته الرئاسية السابقة، سعى ترامب إلى تعزيز استخدام الوقود الأحفوري وتقليص اللوائح البيئية؛ حيث تراجعت إدارته عن تطبيق 64 لائحة بيئية حتى مايو 2020، مع العمل على وقف تطبيق 34 لائحة إضافية، كما ألغى العديد من السياسات التي كانت تهدف إلى الحد من انبعاثات الكربون، معتبراً أن القوانين البيئية السابقة أضرت بالاقتصاد الأمريكي؛ لذا من المحتمل أن تستمر هذه التوجهات في فترته الحالية.
ومؤخراً، أعلنت شركة "بلاك روك"، أكبر مدير للأصول في العالم، في يوليو 2023 عن تعيين المهندس أمين الناصر الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية، عضواً مستقلاً في مجلس إدارتها. يُعتبر هذا التعيين خطوة استراتيجية تعكس التزام "بلاك روك" بتعزيز حضورها في منطقة الشرق الأوسط، والاستفادة من خبرات الناصر في قطاع الطاقة العالمي، كما يُظهر هذا التعيين رغبة الشركة في تحقيق توازن بين استثماراتها في الوقود الأحفوري، وتبني خطط تحول الطاقة؛ ما يعكس نهجاً أكثر توازناً في التعامل مع قضايا تغير المناخ.
بالنظر إلى هذه التطورات، يبدو أن مستقبل معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) سيشهد تحديات وفرصاً متباينة؛ فعلى الرغم من التوجهات السياسية التي قد تقلل التركيز على هذه المعايير، فإن القطاع الخاص، ممثلاً في شركات كبرى مثل "بلاك روك"، يستمر في تبني سياسات تعزز الاستدامة. هذا التباين يشير إلى أن معايير ESG ستظل محور اهتمام، مع احتمال تباين مستويات الالتزام والتطبيق بين الجهات الحكومية.