زيارة أخرى إلى سوريا!

بعد سنوات من زيارتى الأولى إلى مطار دمشق التى أشرت إليها فى مقالى يوم الأحد قبل الماضى؛ وفى منتصف التسعينيات من القرن الماضى ذهبت إلى دمشق مرة أخرى فى مؤتمر عقده مركز دراسات الوحدة العربية بمشاركة سورية جعلت المناسبة قومية. حضرت فى صحبة الأستاذ والمفكر الكبير لطفى الخولى رحمه الله؛ وبينما الجلسات منعقدة طلب منى الخروج إلى خارج القاعة والمبنى لأمر هام. كان الأمر غريبا ومع ذلك وكما هى العادة لبيت رغبة الصديق ووجدت مجموعة من العربات السوداء الضخمة ركبنا واحدة منها فإذا بها تسير بسرعة الريح فى شوارع دمشق حوالى عشرين دقيقة.

سألت وقد ارتجفت أوصالى من السرعة فإذا الإجابة أننا ذاهبون لغذاء عند السيد "رفعت الأسد" الشقيق للرئيس حافظ الأسد وكان ذائعًا عنه القسوة والعنف والتى قيل إنها كانت السبب فى إزاحته من منصبه. لم تكن الإجابة مريحة ولكنها كانت مثيرة للفضول، وبعد الوصول والتقاط الأنفاس فإن الرجل ساعة المقابلة كان ودودا وكريما وبالغ اللطف ومقدما لكثير من الحب لمصر الحبيبة.

كان المنزل قصرا كبيرا يقع فى منتصف مساحة كبيرة من الأرض وتحيط بها أسوار عالية أشبه بأبراج؛ وكان الوصول إليها بالسرعة المشار إليها لحمايتنا، الركاب، من الاغتيال. أصبحنا فيما يشبه ثكنة عسكرية؛ وفهمت أننا انتهينا إلى مكان معارض للسلطة السورية حتى ولو كانت من أخ رئيس الدولة الذى أكد لنا أنه يقع فى موقع المعارضة بسبب تأييده لما قامت به مصر من سلام مع إسرائيل؛ وأنه عندما يذهب إلى صلاة الجمعة فإن الجماهير تتجمع حمله هاتفة ومؤيدة. كان ذلك مفاجئا وعاكسا لحالة من الانقسام السياسى التى ظهرت فيما بعد بخروج رفعت الأسد من سوريا وذهابه للتنقل بين فرنسا وإسبانيا. الصورة ساعتها كانت أن الأحوال حتى داخل العائلة الحاكمة ليست على ما يرام رغم أن الموقف الرسمى للدولة يذهب فى اتجاه توحيد الأمة العربية "ذات الرسالة الخالدة".

مضت الزيارة على خير وغذاء كريم لكن غالبنى طوال الوقت ذكريات زيارة إجبارية حدثت قبل ذلك بعقد تقريبا عندما كنا وفدا للجمعية العربية للعلوم السياسية حاضرا إلى بغداد للمشاركة فى ندوة عن التجارب العربية فى الديمقراطية! كانت هى الزيارة الأولى للعراق وكانت أشبه بتتويج الجمعية التى كانت الندوة نشاطها الأول بعد تأسيسها فى قبرص قبل ذلك بعام؛ وهى التى كانت تضم علماء السياسة العرب من المحيط إلى الخليج. قصة إنشاء الجمعية تحتاج رواية لصعودها واختفائها فى وقت آخر. ولكن الندوة ذاتها مضت مثل الندوات الأخرى، حيث قدم كل مجموعة من بلد عربى تجربة بلاده مع الديمقراطية. لاحظنا، ولم نعلق، أن العراق ذاته كان غائبا عن جلسات الندوة. ما لا حظته وقتها هو أن بغداد يهمن عليها تماما الرئيس صدام حسين فمهما تحرك نظرك شمالا ويمينا، إلى أعلى أو إلى أسفل، سوف تجد صورة أو تمثالا له مرتديا رداء عسكريا، أو آخر مدنيا، ممتطيا جوادا أو مترجلا بجانبه، حاملا سيفا مشهورا أو فى غمده؛ وإذا تغير اتجاهك فسوف يكون حاملا بندقية. الزملاء العراقيون على عكس ما عرفناهم خارج العراق كان صوتهم خافتا، وكلامهم مائعا لا يطرح حجة ولا مقولة أو معلومة، وبعد يوم واحد فإن بوليسية الدولة جعلتنا نتشوق ليوم الرحيل وساعته صباح اليوم التالى. فى الصباح كانت المفاجأة هى خبر هو أن سفرنا تغير حاله إلى ما بعد الظهر، وأننا سوف نقابل "شخصية هامة". ركبنا فى حافلة كبيرة مسدلة الستائر السوداء وانطلقت نحو نصف ساعة حتى وصلنا إلى قصر "الرئاسة" الذى يوجد فيه الرئيس صدام حسين شخصيًا. كان القصر متواضعا، وبعد الوصول جاء صوت يحمل أسماءنا رباعية الواحد بعد الآخر، تماما كما هى فى جوازات السفر. مر جندى علينا وأعطى لكل منا مظروفا أصفر طالبا منا أن نضع فيه كل شىء من خاتم الزواج إلى ما لدينا من حافظات نقود أو نظارات أو مفاتيح. كان ذلك فقط المقدمة التى سوف يأتى بعدها الطلب فى الدخول إلى ممر فيما بعد عرفت أنه يقود إلى غرفة يجرى فيها تفتيش يشمل ما تلبس من حذاء ومعطف وحزام. التقينا بعد ذلك فى غرفة واسعة كان الزملاء فيها من النساء فى حالة بكاء بعد مرورهم فى هذا الاختبار؛ ثم بعد ذلك جاءت اللحظة الحرجة لمصافحة الرئيس ثم الدخول إلى قاعة اجتماعات دائرية. تحدث الرئيس عن أن الديمقراطية فى العراق قائمة وأن سياسته هى أن تجعل "مائة وردة تتفتح". كانت هذه مقولة ماوتسى تونج، وبعدها تحدث لدقائق فى أمور عامة ولكن فجأة جاءه من يسر فى أذنه أمرا بدأ بعدها مهتما بأن يصل اللقاء إلى نهاية. تملكتنا الدهشة وبعد استلام ما أخذ منا ذهبنا إلى المطار، وهناك عرفنا أن جزيرة "الفاو" العراقية قد سقطت فى يد الإيرانيين. بمجرد خروج طائرتنا من الأجواء الإقليمية العراقية ارتجت الطائرة بالتصفيق.

الزيارة السورية والذكريات العراقية حملت معها فترة عصيبة من التاريخ العربى الذى نعايشه اليوم حيث توجد خلطة من الشعارات القومية بينما التفكيك جاريا بين أبناء الوطن العربى الواحد، وما بين الدول العربية وبعضها. العداء فى كل الأحوال قائما لإسرائيل بالطبع والغرب من ورائها؛ وفى الداخل توجد دائما مؤامرة غير منظورة. العراق خاض الحرب العراقية الإيرانية لثمانى سنوات، ثم بعدها قام باحتلال الكويت لكى تنشب حرب تحريرها، وبعد التحرير جاء الغزو الأمريكى لمقر الخلافة العباسية. فى سوريا لم تكن المسيرة البعثية القومية أقل تراجيدية؛ ولم يكن ذلك من المشهد الذى نشاهده الآن وإنما على طول زمن فيه ٥٤ من حكم حافظ الأسد ثم ولده بشار الأسد. العراق الآن يبدو خارجا من عقود صعبة وقاسية يغالب فيها ليس فقط الغزو الأجنبى، وإنما أكثر من ذلك كيف تضع بلدا متعدد الأعراق فى بوتقة سياسية واحدة. الصيغة اللبنانية بدت ملائمة للنصيحة الأمريكية لنخبة منقسمة حيث الرئيس كردى، رئيس الوزراء شيعى، والبرلمان سنى. الدولة تحاول أن تسير على هذا المنوال القلق فى وجود فصل ما بين السلطة السياسية البرلمانية، والسلاح الموحد شكلا تحت راية الجيش العراقى، فى الواقع فإن قوات الحشد الشعبى تتلقى تعليماتها من طهران. سوريا لم تتحمل "الربيع العربى" فخاضت حربا أهلية انقسمت فيها الجغرافيا بقدر ما انقسمت الأعراق والسياسة، ولكن التدخل الإيرانى من طهران ومن بيروت حيث حزب الله والروسى أعطى بشار الأسد مساحة تكفى لتمثيل سوريا واتهام قيادات العرب بأنهم "أنصاف رجال". لم يمض وقت طويل حتى كان هاربا بعد منتصف الليل إلى موسكو بينما كانت عاصمة الخلافة الأموية تسقط فى يد تحالف راديكالى بينما تسقط القذائف الإسرائيلية على معسكرات الجيش العربى السورى، وتبتلع إسرائيل بقية الجولان.

المصري اليوم

يقرأون الآن