في زمن الأزمة... العزّ لـ

ينتظر اللبناني أن تتبدّل الأحوال الى الأفضل، راجياً من السماء ألا تسوء الأمور. حتى يوم القيامة، يبحث عن سبل لا تحوّله نازحاً عارياً، في بلده، وعمّا يكسو به جسده، فيكون بذلك أول ملجأ له: الكندرجي والخياط. وليست مسألة بسيطة أن يصبح سعر الحذاء مليون ليرة، والقميص الرقيق بـ300 ألف، في حين أن بعض الموظفين لا يتخطّى راتبهم الثلاثة ملايين في حال كانوا محظوظين. هذا الأمر أنعش مهنة الخياطة وزاد من زوّار الكندرجية، على قلّتهم.

الترقيع ما زال أرخص من شراء ملابس جديدة، وهذا «أمل» لفهد، وهو رجل متقاعد راتبه لا يتخطى الـ40 دولاراً وفي رقبته 4 أشخاص، فمن أين يشتري أي قطعة ملابس؟ يشحذ همة زوجته لتنسج بالإبرة موضع العطل. أمّا نساء عديدات فيخترعن بأنفسهنّ موضة من ملابسهن القديمة. «حنان» التي هي في عمر التقاعد، تبحث عن عمل ولا قدرة لديها لتدفع للخياطة أو للكندرجي، فتلجأ الى التلزيق السريع للأحذية، وكلّ همها أن تؤمّن طعامها. الوسوم التي تزيّن الملابس في الأسواق التي تصل الى المئتي دولار تخيف الذين يعملون أصلاً، فهم لا يفكرون حتى بشراء أي جديد.

تدور كما تشير لك أصابع المواطنين في جونية، لتعرف أكثر كيف يعيش المواطن في هذا الوضع، فيدلّونك على تلك البناية التي فيها أرخص خياط يتقاضى عشرة آلاف ليرة على «التضبيط»، إن كان مجرد «زاف». وهنا يختلف الحديث، بين الزاف وأمور أخرى. فيردف ايلي، أحد المواطنين في الشارع، أن تصليح الملابس مكلف على قدر الجديد، مستنكراً الوضع، لأن الرواتب تدفع بالليرة اللبنانية، وهي لا تتخطى المليون ليرة ونصف المليون، بينما أسعار الملابس وكلفة اليد العاملة أي الخياطة والكندرجي ارتفعت كثيراً.

بدوي الكندرجي في جونية، يمازحنا بموضوع التسعيرة بأنه يسعّر على قدر ثروة زائره، فالغني تختلف تسعيرته عن الفقير، مؤكداً أن المسائل ليست محددة مسبقاً بل الأسعار تختلف وفق الحاجة والمشكلة، ولا يحلم بمبلغ الخمسين ألف ليرة على القطعة لأنه بهذا السعر لن يعود أحد يدخل محله، وهو يريد أن يعمل ولا يستطيع أن «يلاحق» الدولار. ومع هذه الأسعار، ارتفعت الفواتير، وتلف جسده على كثرة العمل، وما زالت «ما عم توفي معو». وتضيف زبونة أن أرخص حذاء بعشرة دولارات، أما التصليح مهما ارتفع فهو مقبول.

بدوي هذا يلقّب من قبل زبائنه بالـ»معتق»، فأصلاً لم يصمد غيره هو وكندرجي آخر (عوده) في شارع الكندرجية في جونية ومحيطه. قصة هذا الشارع أخبرنا إياها طوني الشامي، وهو مستأجر قديم لمحلّ ورثه عن أيام أجداده، وكان هذا المحل في وقت سابق يستخدم لتصنيع الأحذية، وكان الذي يصنعها يسمّى بالكندرجي. هذه المحلات وقعت بملك رهبنة بزمار، إذ كانوا يطلبون طلبيات من المصنعين، ولا يمسها خدش قبل 40 عاماً. يعود طوني بالذاكرة الى قصص والده الذي كان يصمم الحذاء بيديه، ويدعّمه كبناء متين، حتى أن أحد الرهبان زاره وذكره بأن ما ينتعله في رجليه هو من صنع أبيه. تدريجياً، يقصّ على مسامعنا، ما أغرق السوق بالبضائع المستوردة والجاهزة، تقلص عدد المتمرسين في المهنة، وهم اليوم لا يتخطون أصابع اليدين.

بحثنا في كسروان عن كندرجي آخر لندرتهم وارتفاع أسهم عملهم، فلم نجد إلّا في صربا. يخبر صاحب محل تصليح أحذية، كيف تعلّم هذه المهنة بالمراقبة في جونية، وبصمت كان ينقلها الى محله بين دوامه في البلدية وبعد الدوام. هكذا أصبح اليوم في هذه الأزمة ملجأ لسكان جبيل وكسروان والمتن، فيخبر أنه يعمل «بنظافة» ليستمرّ ويذيع صيته سائلاً: مين بعد بيكبّ شي؟ فحتى تمرّس في تصليح حقائب المدارس التي تتخطى أسعارها الملايين.

في برج حمود، حيث لكل زاروب قصة، تنتشر الخياطات والخياطون، وهم ملجأ الغني والفقير. تصف ماري كيف ارتفعت أسعار الأغراض المستخدمة من الخيطان الى الماسورة الى الأزرار وكل أدوات العمل وهذه على حد تعبيرها «بيخلصوا»، أي لا تدوم كثيراً، وذلك حسب وتيرة العمل المرتفعة إذ تقدر أن 90% من المواطنين لا يرمون ملابسهم وأكثر زائريها يحملون «البناطلين» ولا تطلب مقابل الرتق أكثر من 30 ألف ليرة، فسوق برج حمود هذه أسعارها، أما «التضييق» فمن العشرين ألفاً وصاعداً، ولكنها مجبرة على العمل، إذ تبدلت الأحوال الاقتصادية جداً وعند تدهور الأحوال قررت فتح «باب رزق» من التاسعة صباحاً الى السادسة مساءً لتدرّ بعض الأموال على العائلة، لدفع مستحقات مالية وكان قرارها بنظرها صائباً.

في زاوية أخرى هناك عمّ يتخطّى عمره السبعين عاماً، أرمل، وأيضاً عندما استبد الوضع الاقتصادي باللبنانيين وجدها فرصة ليوسّع أعماله، بعدما توسعت رقعة الحزن في منزله مع وفاة زوجته وانخفاض قيمة راتب ولده، ففتح محلاً. بين كل كلمتين يضيء على أنه وحيد، والعمل يخفف من وحدته وملله في المنزل، إذ هو على الرغم من عمره يصف نفسه بأنه «بولدوزر»، أي قادر على «أكل العمل أكلاً». في منزله عندما كان مشغله إحدى الزوايا، كان لا يعرف فيه إلا بعض الزبائن، أما اليوم فصيته ذائع لانه سريع ويلبي الجميع. اليوم أكثر الطلبيات هي لتصليح ملابس المدارس لأنها الأغلى على الاهل الذين يتبادلونها في ما بينهم ومع ذلك ورغم أن أسعاره محروقة، يجادله الزبائن. يشتكي هاغوب الكندرجي من «نق» المواطنين الذين يجادلونه على العشرين ألف ليرة لتركيب كعبية، والكعبية سعرها 12 ألف ليرة فماذا يبقى له؟ 8 آلاف ليرة، سائلاً كيف أدفع فواتيري، الأدوية، وآكل وأشرب؟ هكذا يدور الجميع في حلقة مفرغة، منتظرين حلاً من مكان ما، حلاً يبعد عنهم شبح المجاعة والعري.

ريتا بولس شهوان - نداء الوطن

يقرأون الآن