مع كل حدثٍ يستجدّ النقاش حول مفهوم الدولة العريق، خوفاً عليه من قبل العقلاء، ومناهضةً له من قبل المتمردين. ومع المفهوم يأتي سؤال العلمانية وحيثيتها وإمكانية تبيئتها. لم يترك مفهوم العلمانية للباحثين مجالاً لتجاوز أنواره وأعطاله. حتى بعد التجارب الأممية الكثيرة له لإدارة الواقع ولحسم هوية الدولة، بقي المفهوم مثيراً للإشكاليات والنقد. حتى الآن، تصدر كتب رصينة لفلاسفة ومفكرين تتعلق بهذا المفهوم، وعلاقاته.
أضرب مثلاً بأطروحتين؛ إحداهما للأستاذ وائل حلاق بجامعة كولومبيا، بعنوان "الدولة المستحيلة"، وفيها أجرى مداخلات ثرية مع طلال أسد. وحلاق متخصص بالفقه الإسلامي وتطوره، ولديه في ذلك عدد من الكتب المطبوعة، والأخرى التي يعمل عليها وستصدر قريباً. والثانية بعنوان: "إشكالية الفصل بين الدين والسياسة"، لإيفان سترينسكي، وهو أستاذ بجامعة كاليفورنيا، وفيه يواجه ما سماها الخرافات حول العلاقة بين الدين والسياسة من جهة، ويعارض ربط الدين بالحرب، ويساجل من سماهم "الملاحدة الثرثارين" ووجهات نظرهم حول الدين.
يناقش سترينسكي طلال أسد وآخرين، منطلقاً من التحقيق بستة قوالب شائعة. في أحد القوالب، ينتقد أسد قائلاً: "القالب السادس يقول إن الدين في جوهره مستقل عن السلطة السياسية، حيث إنهما من الأمور العامة المتجسدة الخارجية بطبيعتهما. ويذهب طلال أسد إلى القول بأن الفصل بين الدين والسياسة عادة غربيةٌ حديثة، فالدين مسألة تتعلق بشيء يدعى الروح، فهو عين البعد الروحي للحياة على كل حال، ومن ثم فإن الدين بطبيعة الحال لا صلة له بالسلطة". وإيفان انطلق في المقدمة من أحداث إيران عام 2009، وأراد إزاحة الستار عن الإشكاليات والفروقات بين استقبال الأديان للعلمانية، ويشن بالكتاب النفيس هجوماً على الإطلاقات العمومية حول الدين منذ لوثر حتى هيتشنز.
في السياق ذاته، تأتي أطروحة مهمة لويليام ت. كافانو، أستاذ اللاهوت في جامعة "دي بول" الأميركية، عنونها بـ"أسطورة العنف الديني - الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث"، وهدف الكتاب مناقشة علاقة العنف بالدين، وعلاقته بالسلطة والمجتمع، منتقداً "الأيديولوجيا العلمانية"، وأحكامها العمومية حول الدين. في الفصل الثاني، مثلاً، يشير إلى أن "مصطلح الدين المدني قُدّم مع روسو في القرن الثامن عشر، في الفصل الأخير من كتابه (العقد الاجتماعي). ويقترح روسو صراحةً ما سماه (الدين المدني) كحلٍ للتأثيرات الانقسامية للمسيحية، التي قسمت ولاءات الناس بين الكنيسة والدولة؛ لم يكن روسو يريد الإطاحة بالمسيحية ومحوها تماماً، وإنما جعلها ديناً للبشر يتعلق بالعبادة للإله القدير، وبالالتزام الداخلي بالأخلاق، ولا شيء آخر".
الخلاصة؛ أن علينا تجاوز التفسير الواحد حول العلمانية بمسارها الفلسفي والسياسي، وذلك من أجل طمأنة المجتمعات وإخبارها بأننا نتناول مفهوماً قابلاً للتمدد والتطوير والتفسير، فهو يتكيف مع أي مجتمع. إن الانتقادات الآنف ذكرها جاءت من مفكرين يؤمنون بدور العلمانية في تنقية الواقع، ولكنهم في الوقت نفسه يساهمون في تشريح المفهوم للانتقال به وبعلاقاته من التفاسير التقليدية، فالمفهوم الغني العميق يظل أبداً ينتج إشكالات نقدية لا تنتهي ألبته.
الاتحاد