لبنان

"الانتفاضة" في ذكراها الثالثة... أي عِبَر؟

حراك أم انتفاضة أم ثورة؟ إختلفت المسمّيات وتباينت المنطلقات والآليات والمرامي. لكنّ الأكيد أنّ كثيرين ممّن خرجوا إلى الشارع في ذلك اليوم عبّروا عن وجع مُشترك. فَهْم أسباب ذلك الوجع كان "ولا يزال" ضبابياً. والجزء الأكبر من غضب الناس على السلطة ما لبث أن تحوّل إلى مشاحنات في ما بينهم. السلطة اضطربت للحظة لكنها لم تقع ووجع الناس مستمرّ. هنا استعادة سريعة لـ"17 تشرين" على لسان بعض من شاركوا أو أيّدوا.

نبدأ مع الباحثة والناشطة السياسية، زينة الحلو، التي أشارت إلى أن الشعور بالخيبة لدى اللبنانيين راح يتنامى منذ تسوية 2016 الرئاسية وانتخابات 2018 ليُخذلوا بعدها من إخفاقات الموازنة والتوظيفات العشوائية ورفع الضرائب وغيرها. أما التململ الفعلي، فأخذ يتفاقم منذ أيلول 2019 مع فرض القيود على عمليات السحب من الصرافات الآلية، ثم طوابير البنزين وأزمة الخبز وحرائق 15 تشرين، لتأتي لحظة الإنفجار في 17 منه.

"الإنتفاضة تمكّنت، للمرة الأولى في لبنان، من أن تقسم البلد أفقياً بين أناس من مختلف الأطياف والسلطة، ما أربك الأخيرة تماماً. فهي سعت بكافة الطرق لكسر الاصطفاف الأفقي ومعاودة خلق اصطفاف عمودي مبني على الارتباط الطائفي لا الطبقي، وقد نجحت بذلك"، كما تقول الحلو. المعوّقات لم تقف عند ذلك الحدّ، فالقضايا التي طرحتها "الثورة" كانت متشعّبة، وكونها لم تكن منظّمة فقد كان مصيرها محتّماً. هذا إضافة إلى ركوب بعض القوى السياسية موجتها وقلّة خبرة بعض الموجودين على الأرض وتواطؤ غيرهم في مكان آخر.

هل انتهى كل شيء؟

تجيب: "المشكلة هي أننا نرفض دفن الثورة. هناك أشياء تنتهي ويجب أن نتقبّل نهايتها. فالثورة فعلت ما فعلته في ذلك الوقت، أما الآن فيتعيّن أن نقرأها ونتعلّم منها لننتقل إلى مرحلة أخرى. العيش في حالة حنين لها يمنع نشوء امتداد لحركة 17 تشرين"، من وجهة نظر الحلو، التي تنهي قائلة: "ما ينقص لبنان هو تغيير التركيبة الاجتماعية القائمة على مبدأ تطبيع الزبائنية واعتبار الفرد مرتبطاً بالدائرة الطائفية والمناطقية والسياسية، وإحلال مبدأ المواطنة والمطالبة بالحقوق محلّهما. التغيير بحاجة إلى الوقت لا سيما في مجتمع متعدّد ومنقسم، ما يتطلب تنظيماً ونشراً للوعي لتشكيل قوى وازنة تقلب موازين القوى مع النظام القائم".

القمع وتضخّم الأنا

انقسمت آراء "أهل الثورة" حول دور حزب الكتائب فيها بين مؤيّد ومعارض. عضو المكتب السياسي في الحزب، الوزير السابق آلان حكيم، اعتبر في حديث لـ"نداء الوطن" أنّ 17 تشرين شكّلت استمرارية لـ"ثورة 2014" التي بدأها الحزب من داخل الحكومة بعد سلسلة استقالات، كما لـ"ثورتي 2016 و2017" حيث تمّ رفض الكثير من التسويات، منها تلك التي أوصلت العماد عون إلى سدّة الرئاسة، ملف النفايات، ملف الضريبة على القيمة المضافة وسواها.

وإذ أكّد أن الثورة لم تمت، أشار إلى أنها ما زالت موجودة من خلال ردود الأفعال التي نشهدها على صعيد إدارة الدولة ومؤسساتها. وأضاف: "في البداية، ارتبكت الدولة والسلطة الحالية لا سيما أنّ الناس تواجدوا بكثافة على الأرض، لكنّ استخدام وسائل القمع بطريقة وحشية واختراق الحركة الشعبية بمكوّنات حزبية ومخابراتية أدّيا إلى إرباك المتظاهرين وخلق المشاكل بينهم". أما التدهور الاقتصادي، فقد وضع حدّاً لإمكانات التمدّد الجغرافي والشعبي وكان له وقع المطرقة على رأس المواطن كاسراً عزيمته. فإغراق الأخير بالأزمات المعيشية المتتالية أفاد السلطة، فضلاً عن تفشّي كورونا والدور الذي أدّته الأحزاب المناهضة للثورة ما أخرجها من الأرض، بحسب حكيم.

ماذا بعد؟ "لا شكّ أنّ التشرذم شكّل نقطة أساسية في تراجع الثورة، إذ لم يملك الجميع الأفكار نفسها والتوجّه نفسه. كان من الضروري وجود قائد للثورة لكنّ أحداً لم يرد الاعتراف بواحد رغم وجود وجوه حيادية كثيرة. التشتّت والمصالح الشخصية والأنا أدّت إلى ما وصلنا إليه"، يشير حكيم خاتماً.

غياب قيادة

العميد الركن المتقاعد جورج نادر، عزا بدوره في اتصال مع "نداء الوطن" مشاركة حراك العسكريين المتقاعدين في الثورة ليس فقط إلى المطالبة بحقوق المتقاعدين بل إلى تبنّي مطالب الناس أيضاً. "الثورة لم تكن طائفية ولا مناطقية، فهي تشبهنا كعسكريين. شاركنا بها على أمل أن يصار إلى تعديل النظام ومحاسبة الفاسدين واستقلالية القضاء".

وتابع نادر إنّ ما بدأ حراكاً مطلبياً اجتماعياً لمكافحة الفساد دون أي بعد إقليمي، سرعان ما استغلّته الأحزاب. أما السبب الثاني فهو الإخفاق في فرض قيادة فردية أو جماعية للثورة كون الجمهور رفض ذلك كلياً لتعمّ الفوضى القاتلة. "هناك سبب آخر مزروع في "جينات" اللبنانيين وهو الأنا وحب الظهور وتفضيل المصلحة الخاصة على العامة"، كما قال نادر الذي رأى أن للثورة حالياً ثلاثة أجنحة: جناح لا يرى سوى "حزب الله" وسلاحه سبباً في الأزمة؛ جناح لسان حاله "إفعل ما تشاء لكن لا تقترب من سلاح حزب الله"؛ وجناح عقلاني يرى أن نزع ذلك السلاح هو المدخل الرئيسي، لكن ليس الوحيد، لتحقيق سيادة الدولة.

نسأل عن السُبُل الآيلة لإعادة وصل ما انقطع، فيجيب نادر: "يجب البحث عن طريقة أخرى لجمع الثورة وتغيير السلوك والنمط السياسي. أسباب الثورة بكلّيتها ما زالت موجودة، وقد يكون الفراغان الرئاسي والحكومي - في حال حصلا - سبباً في إحيائها من جديد".

مسائل شخصية

من ناحيته، يشرح الأمين العام لحزب "سبعة" الدكتور حسن شمص، لـ"نداء الوطن" أسباب مشاركتهم في 17 تشرين بالقول: "تعدّدت المشاكل من فساد ومحاصصة وطائفية إلى عدم إنتاجية الحكومة وفرض الضرائب دون أي خطة كما الصرف على القاعدة الاثنتي عشرية، ما دفع الحزب إلى دعم الانتفاضة سعياً للتغيير". وفي حين رأى أنّ "الثورة ساهمت في تغييب بعض الأحزاب والشخصيات، كالحزب القومي وتيّار المستقبل، لكنها لم تنجح في تغيير المنظومة، كونها متموّلة، أخطبوطية، ولديها شركاتها وماكيناتها الإعلامية والمالية".

عن الإخفاقات يقول شمص إنّ "الثورة شابها غياب التنظيم ولم تُسيّر بقيادة حزب معيّن فتحوّلت ساحة مفتوحة للجميع. تعدّد الأطراف ذاك أدّى إلى تضعضعها خاصة أنه لم يكن هناك أغلبية لطرف ما على الآخرين. ثم إنّ دخول بعض أطراف السلطة على الخط واستغلالها لمصالحه على قاعدة "تحويل التهديد الى فرصة" فعل فعله هو الآخر". ويضيف: "المسائل كانت شخصية أكثر منها على علاقة بالتوجّهات والسياسة والرؤية. رغم ذلك، الحلم لم يمت لكن هناك حاجة لإخراج مختلف. لكلّ منا مشروعه. فليَختَر الشعب المشروع الذي يريد لكن العودة إلى الشارع لن تجدي نفعاً. يجب تحمّل المسؤولية إذ لن يأتي من ينقذنا إن لم ننقذ أنفسنا".

النفوس قبل النصوص

ننتقل إلى مؤسس مركز "17 للدراسات والبحوث" وليد المحب، الذي اعتبر في حديث لـ"نداء الوطن" أنّ "محاولات تفجير الثورة بدأت منذ أزمة النفايات سنة 2015 لكنها أخذت شكل الحركة المطلبية لا أكثر. أما أبرز ما حقّقته 17 تشرين فهو جعل المسؤولين يحسبون حساباً قبل أي اقتراف جديد، كما إحياء شعور رفض الموروثات الطائفية والأحقاد." يضيف: "للأسف، سرعان ما تلاشى ذلك الشعور الوطني لأسباب عديدة أهمها: الإعلام الذي دغدغ مشاعر الثوّار ظاهرياً، لكنه عمل بشكل مُتقَن لتثبيت السلطة وإجهاض الثورة، ما أثار الشكوك حول شعار "كلن يعني كلن"، مبدأ الثورة وروحها".

المحب رأى أنّ "باكورة الإخفاقات كانت تجربة "هيئة تنسيق الثورة"، إذ كانت الحاجة ماسّة إليها لتقسيم الأدوار وتوزيع المهام، لكنها لم تستمر كون غالبية الثوّار كانت تسوقهم أنانيّتهم. هذا إضافة إلى عدم تحصين الثورة من الشرذمة منذ بدايتها، فهي نابعة من أطياف المجتمع، ولكل طيف خاصيته وهمّه وظرفه". ويقول: "إلى جانب شيطنة الثورة، قامت السلطة باتهام الثوّار بالتواصل مع السفارات، وتقبيح صورتهم، فتارة هم مدارون من الـNGO's، وتارة هم امتداد لمجموعة "Otpor" السرية العالمية التي تتّخذ من قبضة اليد شعاراً لها. أما استغلال السلطة للأمّية السياسية لدى كثير من الثوّار، فخفّض السقف من تغيير النظام السياسي، بما فيه الدستور، إلى مطالب صغيرة. وبما أن "الضربة اللّي ما بتموِّت بِتقوّي" استعادت السلطة هيمنتها عبر تمرير انتخابات نيابية بموجب قانون مفصّل بأدقّ تفاصيله على مقاسها".

ترتيب الأولويات، بحسب المحب، يقتضي تكوين سلطة جديدة تتّسع للجميع على أساس قانون انتخاب سليم لا يحجب التعبير الصحيح عن إرادة الشعب. وإذ تحدّث عن سلّة حلول متكاملة تتألف من مجلس شرعية شعبية، مجلس حكم انتقالي وقانون انتخاب سليم، على أن توكل إلى البرلمان المولود من تلك الانتخابات معالجة المواضيع الخلافية، لم يُنفِ العلم المسبق بوجود الكثير من قوى الشدّ العكسي التي يدور بعضها في فلك السلطة وبعضها الآخر محسوب على التغييريين.

من 14 و17 إلى...

"القوات اللبنانية" اختارت في مرحلة أولى المعارضة من داخل السلطة التنفيذية لتؤيّد لاحقاً - وغالباً من طرف واحد - الشارع المنتفض قبل أن تغادرها على وقع التطورات الميدانية. ماذا يقول رئيس جهاز الإعلام والتواصل في الحزب، شارل جبور، لـ"نداء الوطن" عن تلك المرحلة وما سبقها وتلاها؟

يعتبر أنّ "الثورة الأولى حصلت في 14 آذار 2005، وكانت ثورة سيادية بامتياز وعابرة للطوائف هدفها استعادة القرار السيادي. أمّا 17 تشرين، فهي ثورة اجتماعية ذات طابع مالي اقتصادي. في نهاية المطاف، الالتقاء موضوعي بين الثورتين لأن الانهيار المالي والاجتماعي لا يأتي إلّا بفعل غياب القرار السيادي". وأردف: "قوة ثورة 14 آذار كانت في ارتكازها على أحزاب واستنادها الى سردية سياسية ومبادئ ومسلّمات ورؤية واضحة المعالم. أما 17 تشرين، ورغم تحريكها للرأي العام اللبناني، غير أنها لم تملك تلك الرؤية السياسية الواضحة، فاختلط اليمين باليسار، والسيادي بالشعبوي، والاجتماعي بالمالي مع استبعاد الشق السيادي".

شعار "كلن يعني كلن" وصفه جبور بالسقطة التاريخية للثورة، موضحاً أن أهمية 14 آذار نشأت على فصل ما قبل عمّا بعد بعيداً عن محاسبة الماضي: "هناك من أراد تفجير الثورة من الداخل من خلال ذلك الشعار. فكيف يمكن المساواة بين من هو مع سلاح حزب الله ومنطق الدولة وبين من هو ضدّ السلاح ومع منطق الدويلة؟ الشعور بوجود "ملائكة وسط شياطين في هذا الوطن" إنما أسقط الثورة".

ثورة سيادية تنطلق من رحم 14 و17 وتتّعظ من تلك التجربتين وصولاً إلى حالة عارمة تحقّق هدفين أساسيين: قيام دولة سيادية وإدارتها بشفافية من قِبَل رجال دولة حقيقيين. هذا ما يحتاجه لبنان، كما يلفت جبور ختاماً.

كارين عبد النور - نداء الوطن

يقرأون الآن