لم يكن سهلاً على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط السير بخيار إيصال جنرال الرابية الى قصر بعبدا رئيساً، لكنه عاد وقرّر على مضض الاقتراع له من قبل النواب الملتزمين حزبياً، تاركاً لأعضاء الكتلة المستقلين حرية الخيار. إلا ان إعادة عملية الاقتراع لثلاث مرات في جلسة انتخاب ميشال عون "حمّسته"، وهو المعروف بأسلوبه الساخر، ليعود ويوجّه رسالة مع انطلاقة العهد الجديد، لا تقلّ حنكة عن وصفه لعودة عون من باريس بالـ"تسونامي"، ليختار رئيساً للبنان من بين رفوف مكتبته، مقترعاً للمغامر اليوناني "زوربا".
كانت العلاقة في الأشهر الأولى من العهد إيجابية، حيث اعتبر جنبلاط أنه فتح صفحة جديدة مع عون، وشارك في حكومتي سعد الحريري الأولى والثانية. إلا أن الكيمياء المفقودة أصلاً بين الرجلين بدأت تظهر في العلاقة بينهما. ولم يخف جنبلاط رأيه مختصراً رؤيته للعهد بأنه "عهد فاشل من أول لحظة".
بدأ التوتر يظهر ما بين الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر داخل الحكومة كما في خارجها، وكان ملف الكهرباء في طليعة النقاط التي واظب "الاشتراكي" على إثارتها منتقداً كيفية إدارة وزراء التيار في وزارة الطاقة من البواخر وصولاً الى غياب الهيئة الناظمة والهدر في القطاع. وقد عقد "الاشتراكي" أكثر من مؤتمر بهذا الخصوص. الخلاف نفسه انسحب على ملفات القضاء والنازحين والتعيينات والعلاقة مع الدول العربية وسواها.
إلا أن التوتر بلغ ذروته بين الاشتراكي والتيار والعهد عشية انتخابات 2018، والتي حصلت للمرة الأولى وفق القانون النسبي. كان الخطاب الطائفي بأوجه وتسببت خطابات رئيس التيار جبران باسيل باحتقان كبير في الشارع وبين مناصري الحزبين، لا سيما تلك التي كان يذكّر فيها بحرب الجبل وبحرب 1860، وتصويبه على مصالحة الجبل واعتباره أن العودة السياسية والحقيقة لم تتحقق. ليأتيه الرد دائماً من "الاشتراكي" بوصفه "نابش قبور" ويتعرّض للمصالحة التاريخية بين جنبلاط والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير.
استمر التوتر بين الفريقين لينعكس خلافاً داخل البيت الدرزي أيضاً، في ظل التحالف بين التيار الوطني الحر والحزب الديمقراطي اللبناني والاعلان لائحة وحدة الجبل التي تضم أعضاء من تكتل لبنان القوي الى جانب النائب طلال ارسلان.
العلاقة غير السوية هذه شهدت على "طلعات ونزلات"، ورغم الأجواء المتشنجة بينهما، نجحت المساعي الى إقامة قداس التوبة والمغفرة في سيدة التلة في دير القمر في 23 أذار 2019، في محاولة للتخفيف من حدة التوتر، أو من منظار جنبلاط إشراك "التيار" بمصالحة الجبل وإن لم يكن جزءا من أطراف الحرب التي حتّمت إجراء المصالحة في العام 2001.
ولكن حتى في هذه المناسبة، لم تكمل "الصلحة"، ففيما ركّز جنبلاط على الهدوء وطي صفحة الحرب وعدم الاستمرار في نكئ الجراح، لأن الجميع كان مشاركاً في تلك الحرب، ولا يمكن تبرئة أحد، سارداً تفاصيل ما حصل ليلة اغتيال كمال جنبلاط في العام 1977. إلا أن باسيل عاد ليكرر خطابه السابق نفسه، بأن العودة الحقيقية السياسية الى الجبل لم تتحقق إلا بعد الانتخابات الأخيرة. وقد أطلق باسيل كلمة لافتة حول التوبة والمغفرة، معتبراً أن المغفرة تمنح لطالب التوبة. وبالتالي كانت هذه المناسبة عملياً وكأنها لم تكن.
لا التوبة ولا المغفرة شفعت بهذه العلاقة الموتورة بين "الاشتراكي" و"التيار"، وما هي الا 3 أشهر لتنفجر هذه المرة في الشارع، فكانت حادثة قبرشمون في 30 حزيران 2019، مع ما نجم عنها من تداعيات على المستوى الوطني مع تعطيل مجلس الوزراء كما على مستوى الجبل. بلغ التوتر أشدّه على ضفاف قبرشمون، فكانت الحرب التي لم تنلع والجمر تحت الرماد الذي أحرق عند أول هبوب للعاصفة.
استمر التشنج حتى التاسع من آب، حيث عُقد لقاء في قصر بعبدا، وُصف بلقاء مصالحة على أعقاب قبرشمون، وقد ضم كل من الرئيس عون والرئيس نبيه بري الى جانب جنبلاط وارسلان. فكانت بمثابة طي سياسي لمرحلة قبرشمون وإن كان الجرح اجتماعياً لم يندمل بعد.
أيام العسل مع عون استمرت مع انتقال الأخير الى المقرّ الصيفي في بيت الدين، ليزوره جنبلاط ويدعوه الى المختارة. لكن عون لم يلب الدعوة ولم يزر المختارة رئيساً طوال الست سنوات، وذلك على خلاف كل رؤساء الجمهورية السابقين الذين اعتادوا أن يزوروا القصر بعد انتقالهم الى بيت الدين.
أجواء الاصطياف السياسي لم تطول، وعاد التوتر في العلاقة بين الطرفين من جديد، بعدما رفع زعيم المختارة شعار إسقاط العهد الفاشل. وصورة النائب تيمور جنبلاط الى جانب باسيل في اللقلوق، في أيلول من العام نفسه، لم تأت بالشفاعة، وصعّد "الاشتراكي" من حدة خطابه السياسي، محذّراً من انهيار البلاد والاقتصاد، ومطالباً بإسقاط عون. ليدعو الى مسيرة حاشدة لمنظمة الشباب التقدمي في 14 تشرين الأول شارك فيها كل نواب "الاشتراكي" وقيادات سياسية أخرى، وكانت كلمة نارية للنائب وائل أبو فاعور في ساحة الشهداء هاجم فيها العهد وعون.
3 أيام وانقلب المشهد رأساً على عقب بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين. كان نبض القاعدة الشعبية في "الاشتراكي" لا يزال في الشارع بعد مسيرة بيروت، وكاد جنبلاط أن يتخذ قرار الاستقالة من الحكومة ليعود ويتمهّل بانتظار موقف الرئيس سعد الحريري الذي أعلن استقال الحكومة كاملة.
ما بعد 17 تشرين وانهيار الليرة والاقتصاد ووصول وباء كورونا، تغيّرت المعطيات وبدأت مرحلة مفصلية من تاريخ البلد. تراجعت المعارك السياسية لصالح معارك الخبز والدواء والمحروقات والودائع.
لم تكن العلاقة على أحسن ما يرام بين كليمنصو وبعبدا، لكن الوقت لم يعد للحروب السياسية، وقد زار جنبلاط بعبدا في أيار 2020 بعد دخول وسيط وجاءت هذه الزيارة بعد سجالات عنيفة متبادلة بين الطرفين دخل على خطّها أيضاً رئيس الحكومة حسان دياب. كما زاره في أذار 2021 وكان الملف الاقتصادي الحاضر الأبرز، مطلقا موقفا مهما داعياً للمحافظة على المبادرة الفرنسية آنذاك.
"هبّة باردة، هبّة سخنة"، هكذا يمكن وصف هذه العلاقة طوال الست سنوات من عمر العهد. فالسنوات الست بمعظمها عبارة عن حروب ومتاريس بين الفريقين، وقد تجلّت بشكل واضح في انتخابات 2022، والتي خاضها جنبلاط بوجه ما أسماه محور الممانعة قاصداً حزب الله والتيار الوطني الحر.
صحيح أن العهد يطوي أيامه الأخير على اتفاق تاريخي لترسيم الحدود، ومحاولة احداث تقدم في ملف النازحين، لكن "الاشتراكي" يصرّ، رغم أن وفداً للتيار حطّ في كليمنصو منذ أيام، على أن ينغّص عليه مع المصطلحات التي وردت في بياناته الأخيرة حول انجازات وهمية، والتحذير من هدر ثروات لبنان النفطية من دون صندوق سيادي.
"هذا العهد كان كارثياً"، هكذا وصفه جنبلاط في آخر اطلالة اعلامية له، قائلاً: "لم تنتج عن عهد عون سوى كوارث، العهد انتهى.. ليس لنا سوى الانتظار على أمل ان يأتينا رئيس مقبول وألا تأتينا كارثة جديدة من حاشيته".
صفحة مثيرة للاهتمام تلك التي جمعت ما بين جنبلاط والتيار الوطني الحر والعهد، فلا يلبثوا يتصالحون ليعودوا ويتخاصموا. فالكيمياء المفقودة عجزت الست سنوات الماضية عن إيجادها إن لم نقل قطعت آخر الخيوط البيضاء بينهما.
نادر حجاز - موقع mtv