هناك علاقة قوية بين التقدم التكنولوجي، وتوفر فرص العمل، فعند حدوث أي تقدم تقني مؤثر، فإن أول ما يلفت اهتمامات البشر، هو ما مدى تأثير ذلك على فرص العمل التي سيختفي بعضها، في حين سيتم خلق فرص جديدة مختلفة عن سابقاتها، وهذا أمر طبيعي لعلاقته بمستويات المعيشة ومعدلات البطالة.
وفي الوقت الحالي يتزايد الحديث عن إمكانية تقلص كبير في فرص العمل بسبب التقدم التكنولوجي الجاري بسرعة كبيرة، وبالأخص الذكاء الاصطناعي، ما يعني إحلال الآلة مكان الإنسان بصورة لم يسبق لها مثيل، حيث تطرح العديد من وجهات النظر حول ذلك، بعضها يتعمد الإثارة والتهويل، في حين يتميز بعضها الآخر بالنظرة الموضوعية والتحليل العلمي المعتمد على البيانات والخبرة الإنسانية.
وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الانتقال بين مرحلتين، وذلك رغم قوة وشمولية الانتقال الحالي، فقد حدث ذلك مراراً على مر التاريخ مخلفاً المخاوف والمحاذير نفسيهما، فعند اختراع العجلة التي ينظر إليها الآن كشيء من الماضي، توجس الناس، واعتقد الكثير منهم أنهم سيفقدون مصدر رزقهم، إلا أن ما حدث هو العكس، فرغم بساطة الاختراع، فإنه أحدث نقلة نوعية في وسائل النقل والتنقل، واستمر التقدم على مدى قرون لتُحدِث الثورة الصناعية قبل أكثر من قرنين نقلة جذرية مهمة انتقلت معها البشرية إلى عصر جديد لتثار نفس المخاوف والهواجس، ليتبين عكسها تماماً.
ويمر العالم اليوم بالمشاعر نفسها التي تدور حولها الكثير من المخاوف الخاصة بتأثيرات الثورة التكنولوجية الحالية على فرص العمل، إذ ستكون هناك تغيرات نوعية في العلاقة بين الآلة والإنسان، إلا أنه لا بد من النظر إلى ذلك وتقييمه بصورة عملية بعيداً عن التهويل، ففي الوقت الذي ستختفي فيه بعض الوظائف، فإن وظائف جديدة ستخلق، والأخيرة أكثر جدوى، إلا أنها تتطلب مهارات ومستوى تعليمياً مختلفين عن السابق.
وفي هذا الصدد توقّع المدير العام لمنظمة العمل الدولية أن «يتم توليد ما بين 70 و80 مليون وظيفة حتى عام 2030 في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، في الوقت الذي ستختفي ملايين الوظائف الأخرى»، ما يعني أن هناك تغيراً نوعياً في طبيعة الوظائف، بدليل أنه رغم التقدم التكنولوجي الذي حدث في السنوات الخمسة عشرة الماضية، فإن معدل البطالة على المستوى العالمي تحسن ليبلغ نسبة 5% وفق منظمة العمل الدولية.
وهنا ستكون التأثيرات متفاوتة بين بلد وآخر، فالدول التي ستعمل على إحداث تغيرات نوعية في مستويات التعليم ستتمكن من مسايرة التقدم التكنولوجي وتوفير فرص العمل، في حين ستتعرض الدول الأخرى للإقصاء وارتفاع معدلات البطالة. فألمانيا، رغم التقدم التكنولوجي، استقبلت خلال السنوات الماضية أكثر من مليون مهاجر، غالبيتهم من السوريين، بسبب الحاجة الماسة لسوق العمل، حيث سيستمر هذا التوجه في السنوات القادمة، في حين تشير الإحصائيات البريطانية إلى أن عدد سكان بريطانيا سيرتفع من 68 مليون حالياً إلى 74 مليون نسمة تقريباً في عام 2036، وذلك ليس بسبب الولادات المتناقصة أصلاً، وإنما بسبب الهجرة والحاجة لأيد عاملة ومهنيين من الخارج.
ومثل هذا التحوّل المهم بحاجة، وقبل أي شيء آخر، لتغيرات جذرية وسريعة في نوعية وجودة التعليم والارتقاء به بسرعة إلى مستوى التحديات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. فالمرحلة الحالية تتطلب تخصصات مختلفة ومهارات عالية، ومن حسن الحظ أن هناك فرصاً متقاربة بين الدول لتحقيق ذلك، إلا أن إنجاز هذه المهمة الصعبة سيتوقف على السياسات التعليمية التي ستُتَّخذ، ومدى استجابتها لمتطلبات الذكاء الاصطناعي، إذ سيؤدي النجاح في هذا المجال إلى إزالة المخاوف الخاصة بفقدان الوظائف، بل سيتم نقل سوق العمل إلى مرحلة متقدمة يتمتع فيها العاملون برواتب عالية ومستويات معيشية مرتفعة. أما في حالة إهمال هذه العلاقة بين التقدم التكنولوجي، وجودة التعليم، فإن هذه المخاوف ستجد لها ما يبررها.
الاتحاد