ظنت أن أوجاع قدميها، عند هبوط الليل، سببها مشقة الدراسة، والعمل في المنزل.
وعندما راجعت طبيبا، تبيّن أن المسألة أخطر بكثير؛ وأن ظروف العلاج ستكون أقسى من المرض.
"زاد الوجع بشكل مفاجئ في بداية 2024. عملت سونار (صورة موجات فوق صوتية). لكن الطبيب طلب أن أعمل فحوصات أخرى"، تقول سارة، 22 عاما، لموقع "الحرة". الاسم مستعار.
أخذتْ سارة صورة بالرنين المغناطيسي.
نحو 40 دقيقة داخل فوهة جهاز الأشعة، شعرت كأنها شهور، وأنها داخل قبر حديدي وهي لا تزال على قيد الحياة.
تسارعت ضربات قلبها، وشعرت بجسدها يلتهب، وكادت أن تختنق.
وحين حولوها إلى طبيب مختص، طلب منها أن تعود إلى "الرنين" لأخذ صورة ثانية.
بعد أيام وصلتها النتيجة: "ورم في العظام".
منذ تلك اللحظة، انضمت سارة إلى فيلق محاربي مرض السرطان في العراق.
واكتشفت لاحقا أن المعركة ليست عادلة، خصوصا بالنسبة للمرضى في عدد من المحافظات العراقية، وبينها نينوى، حيث تعيش.
في العراق، قليلة هي مراكز العناية المتخصصة في علاج السرطان، وأسباب الإصابة بالمرض كثيرة جدا.
في نيسان/ أبريل 2024، قال وزير الصحة العراقي صالح الحسناوي إن محافظة نينوى، ومركزها الموصل، هي الأعلى نسبة في معدل الإصابات السرطانية، "وليست محافظة البصرة كما يشاع".
وأضاف، "لدينا مركز سرطاني متطور وافتتحنا آخر داخل مستشفى السياب الجديدة بأحدث الأجهزة الطبية" في البصرة.
في نينوى ليس هناك مركز متخصص بالعلاج الإشعاعي. لهذا تسافر سارة مئات الكيلومترات باتجاه الجنوب لتلقي العلاج.
لكن "الوزير أخطأ سهوا بذكر نينوى"، تقول لموقع "الحرة" الدكتورة سرى ياسين، مديرة شعبة الوقاية والكشف المبكر في مجلس السرطان التابع للوزارة.
"كان يقصد محافظة النجف، التي سجلت أعلى الإصابات في التقرير السنوي للتسجيل السرطاني لعام 2022".
سجلت محافظة نينوى 3058 حالة جديدة بمرض السرطان، وفقا للتقرير السنوي للتسجيل السرطاني لعام 2023.
سرطان الثدي كان الأكثر شيوعا بين النساء بـ 644 حالة. وكان سرطان الرئة الأكثر انتشارا بين الرجال بـ 160 حالة.
على المستوى الوطني، رصد التقرير 43062 حالة جديدة. أي 171.6 حالة لكل مئة ألف من عدد السكان البالغ حاليا 45.5 مليون نسمة.
في 2022، كان هناك 39068 أصابة جديدة وفق التقرير. أي 158.9 لكل مئة ألف من السكان. هذا يعني أن معدل الإصابات في تزايد.
"الزيادة في أعداد مرضى السرطان من عام إلى عام في العراق ليست أعلى من معدل الزيادة العالمي،" تقول سرى ياسين.
"إذا قارنا هذه المعدلات بالمتوقع العالمي، وهو 196.8 لكل مئة ألف من السكان، حسب الوكالة الدولية لبحوث السرطان، نحن ما نزلنا لم نتجاوز الخطوط الحمراء".
أسباب الزيادة
التدخين، النظام الغذائي غير الصحي، تلوث الهواء الناجم عن تقلص المساحات الخضراء بسبب التوسع العمراني، إضافة إلى المواد الكيميائية في الأسلحة المستخدمة في العمليات العسكرية؛ من أسباب زيادة الإصابات، وفق مخرجات دراسة أجرتها جامعة كربلاء في 2024.
ويعزو تقرير أنجزته دائرة البحوث والدراسات النيابية في 2023 أسباب الزيادة إلى عاملين:
1 - التلوث الإشعاعي الناجم عن ذخائر اليورانيوم المنضّب التي استُخدمت في حربي 1990 و2003.
2 - تدني الخدمات الصحية، وعدم وجود منهجية في التحري والتشخيص المبكر للسرطان على الصعيد الوطني، باستثناء مستشفيات محددة ضمن بعض المحافظات. ينضاف إلى ذلك قلة الأدوية والكوادر الطبية والأجهزة المتخصصة.
تقول عضوة لجنة الصحة والبيئة النيابية وفاء الشمري، إن ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض السرطانية في جميع محافظات العراق، مرتبط بالمصادر المشعة، من حرب الخليج 1990.
"وهي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا،" تضيف.
في المقابل، تقول سرى ياسين إن المصادر المشعة، التي مضى على استخدامها 25 عاما، لا يمكن أن تكون السبب الرئيس للإصابة بالسرطان.
واقع صحي متدهور
عرقلت الاضطرابات والحروب، على مدى عقود في العراق، مشاريع إنشاء مستشفيات جديدة، وأضعفت المؤسسات الصحية بشكل عام، لكن منظومة رعاية المصابين بالسرطان، كانت الأكثر تضررا.
في موازنة عام 2023، خصصت الحكومة مبلغ 4 مليارات دينار عراقي (أكثر من 3 ملايين دولار أميركي) لمعالجة مرضى السرطان وغسيل الكلى، بعد تظاهرات لمرضى وأطباء مختصين، طالبوا بتوفير العلاج وحل مشكلة عدم انتظام التجهيز لأسباب مرتبطة بالأزمات المالية.
"البنى التحتية في المستشفيات متهالكة جدا،" تقول وفاء الشمري.
"موضوع الصحة بصورة عامة يحتاج من 5 إلى 10 سنوات لوضع قاعدة جيدة لبناء مستشفيات، لتجهيزها ورفدها بالكوادر المتطورة. التخصيصات المالية هذه الفترة قليلة جدا ولا تفي بالغرض"، تضيف.
وتقول، سرى ياسين، المسؤولة في وزارة الصحة إن إصلاح المنظومة الصحية في العراق يحتاج إلى وقت.
"لا نملك عصى سحرية"
وتضيف: "هناك خطة استراتيجية مدروسة أطلقتها الوزارة عام 2023، وماضون في تنفيذها حتى نهاية 2025".
"وفعلا افتتحنا 4 مراكز صحية جديدة، و24 معجل خطي جديد، و19 عقد لزيادة تغطية الأدوية لمرضى السرطان من 48% إلى 74%، هذا يعني رقم قياسي".
ظروف العلاج
بعد ثلاثة أشهر من تشخيص إصابتها بمرض السرطان، قطعت سارة نحو 800 كيلومترا، في رحلة استغرقت أكثر من ثماني ساعات بالسيارة، من مسقط رأسها، الموصل في نينوى شمالي العراق، إلى قضاء الميمونة في محافظة ميسان جنوبا.
تقول إن الناس في مدن الجنوب يساعدون المرضى القادمين من المحافظات الأخرى للعلاج.
"استقبلنا هناك الحاج عادل، مواطن يساعد مرضى السرطان. استأجر لنا بيتا هناك على نفقته الخاصة، والعلاج الإشعاعي كان مجانا".
عدم وجود مراكز علاج إشعاعي للسرطان في محافظة نينوى، أجبر الميسورين من مواطنيها على السفر خارج العراق لتلقي العلاج. لكن ليس أمام محدودي الدخل، مثل سارة، سوى تكبد عناء السفر إلى محافظات أخرى، مثل ميسان وكربلاء.
اكتشفت أم أحمد، وهي معلمة تبلغ من العمر 52 عاما، إصابتها بسرطان الثدي في أغسطس الماضي. هي لا تزال في مرحلة العلاج الكيميائي، لكنها ستضطر في أبريل المقبل إلى الخروج في رحلة لمسافة 6 ساعات من الموصل إلى كربلاء للعلاج.
"المفروض أن تكون هذه الأجهزة متوفرة عندنا، لا أن نسافر إلى محافظات أخرى. هذا متعب ومكلف أيضا"، تقول.
نينوى ثاني أكبر محافظة في العراق. "هل هذا معقول؟"، تسأل أم أحمد بحرقة.
ويطالب بلال ـ ابنه مصاب بورم في الجيوب الأنفية ـ الحكومة بتوفير أجهزة العلاج الإشعاعي وأجهزة التصوير المقطعي (Pet Scan) في الموصل، وتوفير الأدوية بأسعار معقولة.
رحلة بلال وولده ستكون أطول، وربما أقسى، إذ سيضطر إلى السفر مسافة تقترب من 1000كيلومتر، إلى محافظة البصرة، في أقصى جنوب العراق.
"لازم نروح للبصرة، هناك ضغط كبير في كربلاء، 3 جرعات هذا الشهر، والشهر المقبل أيضا، وبعدها Pet Scan، وهذا تكلفته كبيرة، تقريبا 700 دولار".
قبل احتلال تنظيم داعش للموصل في 2014، كان في نينوى 3 مراكز لعلاج السرطان.
أدت حرب التحرير بين عامي 2016-2017 إلى تدمير أجزاء واسعة من الموصل، ضمنها مراكز علاج السرطان والمؤسسات الصحية بشكل عام.
ومع تأخر إعادة الإعمار، فتح مستشفى الأورام والطب النووي أبوابه في موقع بديل بإمكانات محدودة.
يقول مدير المستشفى، عبد القادر سالم، إن "القدرة الاستيعابية للمستشفى حاليا هي 50 سريرا، بنسبة إشغال تصل إلى 300 في المئة".
يوفر المستشفى العلاجات الأساسية، والعلاج الكيميائي بنسبة 100 في المئة، "لكنه يفتقر إلى العلاج الإشعاعي،" يقول.
يجري العمل على إنشاء مستشفى متخصص بسعة 100 سرير. تنتظر المحافظة افتتاحه في نيسان/ ابريل المقبل.
"كان يفترض إنجازه قبل عامين،" يضيف سالم.
"ادفع"
"توفر وزارة الصحة العراقية العلاج الإشعاعي في 12 محافظة من أصل 19"، بحسب، سرى ياسين، و"هناك 26 معجل خطي للعلاج الإشعاعي في تلك المحافظات".
ويحتاج من 70 إلى 80% من مرضى السرطان بصورة عامة للعلاج الإشعاعي، وفق رائد الحديدي، طبيب اختصاص أورام وأشعة علاجية في مستشفى الأورام في نينوى.
لهذا "نضطر إلى تحويل المرضى إلى محافظات بعيدة، ويحاول زملاؤنا الأطباء في بغداد وباقي المحافظات قدر الإمكان تسهيل أمور المرضى المبتعثين من مدينة الموصل".
تضطر أسرة سارة إلى شراء الأدوية لأنها غير متوفرة في المستشفى.
تقول عمتها التي ترافقها في سفرات العلاج إن أسعار الأدوية متفاوتة بين 150 و100 ألف دينار (70-100 دولار).
"بعنا سيارة العائلة لدفع نفقات الأدوية والتنقل والإقامة حتى تحصل على العلاج الإشعاعي"، تقول العمة.
ويوضح الحديدي أن فترة العلاج "قد تطول من أسبوعين إلى شهر، والمريض يكون بعيدا عن أهله، إضافة إلى التكلفة المادية".
ويبدو أن المشكلة تكمن في صعوبة توفير أدوية منخفضة التكلفة، إذ تطلب الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية (كيميديا) مبالغ طائلة للتأمين على أدوية تدر أرباحا قليلة، وفق سرى ياسين.
"وزارة الصحة عالجت هذه المشكلة بتخصيص ميزانيات لمراكز علاج الأورام لشراء الأدوية مباشرة دون إبرام عقود عن طريق كيماديا"، تضيف.
أجبر تنظيم داعش سارة ونظيراتها على ترك الدراسة عندما سيطر على الموصل عام 2014. اليوم، بعدها نحو 7 سنوات على تحرير المدينة، يجبرها السرطان على ترك الدراسة مرة أخرى.
مع ذلك، لم تفقد الأمل بالعودة مرة أخرى إلى مقاعد الدراسة، رغم طول المسافة التي تقطعها من منزلها في الشمال إلى مراكز العلاج الإشعاعي في أقاصي الجنوب.