على طول رصيف ميناء الصيادين في صيدا، تصطفّ مئات المراكب البحرية منذ الصباح الباكر بعد رحلة صيد سمك يومية. فالمهنة ترتبط عضوياً بالمدينة منذ سنين طويلة، ولعل اسمها إشتقّ من حِرفة أهلها، فلا وجود لصيدا من دون صيادين يقطنون المدينة القديمة المفتوحة على البحر، ويحترفون المهنة رغم مشقّتها ويتوارثونها عن آبائهم وأجدادهم. منهم من يبحث عن المغامرة والحرية شغفاً بالبحر، ومنهم سعياً للرزق أو مهنةً كسائر المهن.
في الميناء، تشخص عيون الصيادين إلى «الميرة» - سوق البيع بالجملة، بإنتظار الإنتهاء من بنائه، ينقلون غلّتهم وتفوح منها رائحة السمك الطازج إلى بيوت جاهزة هي بمثابة «السوق البديل» المؤقت، فيما يجلس آخرون على طول الواجهة البحرية، يشدّون وثاق مراكبهم إتقاء لهبوب رياح أو تساقط أمطار، أو يصلحون شباكاً متشابكة لا نهاية لها، إستعداداً لرحلة جديدة في الغد وقد تعرضت للتمزيق أو التلف من «النفيخة» والدلافين الشاردة والنفايات التائهة وكلاب البحر التي بدأت تظهر بشكل كبير.
وسط كومة من شباك متداخلة الألوان، ينهمك الصياد محمد رنّو بإصلاح شباكه وقد مزقتها أسماك «النفيخة» بعد رحلة صيده، يقول لــ»نداء الوطن»: «ورثت المهنة عن والدي، ففي الإجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 لاحقه العملاء فهربت معه الى بيروت عبر «الفلوكة»، وتعلّمت منه المهنة منذ ذلك الحين، وما زلت أتمسّك بها كإرث لا غنى عنه رغم تراجع غلّتها، إرتباطاً بتقلبات البحر والشكوى من سمك «النفيخة» الذي يتكاثر صيفاً وشتاء ويقطع الشباك ويتلفها، ما يجبرنا على العمل مرتين في الصيد صباحاً وفي إصلاح الشباك ظهراً مع كلفتها العالية بالدولار، إضافة إلى ثمن المازوت».
ومن أسباب تراجع المهنة ايضاً «الجاروفة» وهي شباك صغيرة تتميّز بضيق فتحاتها، تلتقط جميع أنواع الأسماك الصغيرة منها والكبيرة وكذلك بيضها، ما يقضي على إحتمال تكاثرها، ما سبّب شحّاً في الثروة السمكية، ومعها الإستنكاف على وراثة المهنة احياناً، إذ لم تعد مهنة محبّبة لدى كثير من جيل الشباب. قلّت رزقتها وكثرت مشاكلها.
ويقول الصياد قاسم خليل بديع لـ»نداء الوطن»: «قبل عقود لم تكن مهنة صيد الأسماك مجرّد مهنة لكسب قوت اليوم، وإنما إرث وتقليد رئيسي في حياة الصيداويين نظراً لعلاقتهم مع البحر المفتوح على حكاياتهم وذكرياتهم السعيدة والحزينة»، ويضيف شارحاً: «لقد ورثتها عن والدي الذي ورثها عن جدّي، ولكن للأسف لم تعد تكفي كفاف العيش الكريم، لذلك قرّرت أن لا أورّثها لإبني الوحيد خليل، كانت مهنة القوت والبحبوحة التي تؤمن المعيشة وصارت «قوت لا تموت»، في ظل الأزمة المعيشية الخانقة وشراء كل مستلزماتها بالدولار الاميركي فيما نحن نبيع بالليرة اللبنانية».
يستعيد «أبو خليل» ذكرياته مع البحر ورزقه، «كنا نعيش في نعيم، فهذه المهنة فتحت بيوتاً وأسّست عائلات وعلّمت أبناءها وبناتها، ولكنها مع مرور الزمن بدأت تتراجع، سابقاً من الفوضى والصيد غير الشرعي والنفايات، واليوم من الغلاء وإرتفاع الأسعار وأسماك النفيخة وكلاب البحر التي تتكاثر وتنتشر بشكل غير مسبوق، والدلافين الصغيرة، إلى جانب بعض النفايات الشاردة والخشب وجميعها تمزّق الشباك ما يستوجب شراء أخرى جديدة أو إصلاحها ودفع نفقات مالية إضافية».
في صيدا اليوم نحو 240 صيّاداً يعملون على أكثر من 140 مركباً في الميناء، يساهمون بالحفاظ على جزء أساسي من إرث المدينة، إنهم يتمسّكون بالمهنة ويمنعون إندثارها رغم التحّديات الكثيرة التي تواجههم، ومتروكون لمصيرهم من دون دعم لمساعدتهم على التغلب على صعوبة الحياة وأزماتها.
محمد دهشة - نداء الوطن