نجح "طائف الأونيسكو"، ليس بحجم الحضور وتنوعه وحُسن التنظيم فحسب، بل لأن اختيار اللحظة السياسية أيضاً كان "ضربة معلم".
فمع بدء الفراغ الرئاسي، وعلى وقع الانهيار المالي والاقتصادي، وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً على "اتفاق الطائف" بل على الانقلاب عليه لحظة اغتيال رينيه معوض، وبفضل الحضن الذي وُلد فيه وعمق الرؤية الوطنية التي تضمنتها نصوصه، وبفعل التجارب المُرة التي عاناها لبنان جراء "المنظومة الفاسدة" التي حكمت البلاد على هواها منذ ذاك التاريخ، يرجع "الطائف" ليشكل الوثيقة الوحيدة الصالحة للعودة الى الصراط الدولتي المستقيم وليرسِّم من جديد حدود الأدوار الداخلية والأطماع الاقليمية.
لا يعيب المؤتمرَ الحضورُ النافر لبعض 8 آذار في الصفوف الأمامية، أو نوستالجيا أيام الحرب لدى بعض صانعيها، او حمَلة المباخر، فالمؤتمر حقق أهدافاً استراتيجية تصب كلها في مصلحة من يريد استقرار لبنان وتأكيد انتمائه العربي وقيام الدولة ووحدة أبنائها. فمُعبِّر أن يجتمع ممثلو أكثريات ثلاث طوائف مؤسِّسة (المسيحيون والسنة والدروز) على وجوب التمسك بوثيقة الوفاق الوطني، في وقت كان فريق الرئيس السابق ميشال عون يراهن على "فوضى دستورية" تلاقي رغبة دفينة لدى حليفه "حزب الله" في طرح مصير النظام السياسي، ليتكرس في النص الدستوري حال الاستقواء ووهج السلاح وممارسات الأمر الواقع.
قطَع السفير السعودي الشك باليقين حين أكد ان باريس لن تسير بمشروع مؤتمر "سان كلو" جديد او تشجع على اي تعديلات تسبق انتخاب رئيس للجمهورية، ما يوجب ان ينعكس على سياق انتخابات الرئيس، فيتنبّه أصحاب الأوراق البيض ومرشحو الكواليس الى عقم إضاعة الوقت، مثلما أدرك الرئيس نبيه بري ان الحوار خارج قاعة البرلمان حَرفٌ للمسار الانتخابي مكلفٌ لكل اللبنانيين.
هذا في الوقائع السياسية الراهنة، أما في نقاش الأزمة التي يعانيها النظام، فلافتٌ أن يُجمع المتحدثون في الأونيسكو على وجوب استكمال تطبيق بنود الطائف معتبرين الامتناع عن ذلك سبباً في نشوء الاختلالات. وهو كلام صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. حتى لو وضعنا كل النصوص الجميلة موضع التنفيذ فلا أحد يضمن كيفية التطبيق في ظل منظومة مقفلة يتبادل المنافع داخلها أهل السياسة وحيتان المال وأصحاب السلاح.
تجربة اللبنانيين مريرة مع دستور من ذهبٍ استولى عليه قراصنة أشرار. وإذ إن مَن دمروا اتفاق الطائف لا يزالون هم أنفسهم في مواقع السلطة والقرار ولا تزال كتل مؤيديهم الصمّاء تعيد انتاجهم، فمَن يتعهد-على سبيل المثال- إجراء انتخابات لا تطيح بتمثيل المرأة والأقليات المذهبية والإتنية اذا ألغيت الطائفية السياسية في اختيار نواب البرلمان؟ ومن يضمن عدم تعمُّد إفشال رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية في المهل الدستورية اذا جرى تحديدها؟ ومن يكفل ألا تكون المحاصصة والزبائنية أبشع مما شهدناه؟ وكيف لأي بند إصلاحي أن يتحقق في ظل عدم التطرق الى بند حل الميليشيات؟
لو قُيِّض للطائف الأساسي الذي ضمنته الرياض والجامعة العربية وأيدته الأمم المتحدة أن يطبق لربما كنا بأفضل الأوضاع وباشرنا ورشة تطوير نحو نظام ديموقراطي علماني يعطي "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". على أي حال يبقى "الطائف" الوعاء الأنسب لاستيعاب التناقضات والإصلاحات إذا صفت النيات وعاد المنقلبون عليه الى مشروع الدولة. هي الفرصة الأخيرة، وتستحق أن تعطى فرصة قبل الدخول في مجهول المشاريع والاقتراحات والمغامرات.
بشارة شربل - نداء الوطن