سوريا

مخططات إيران في سوريا.. رهان على الصراع الطائفي

مخططات إيران في سوريا.. رهان على الصراع الطائفي

بعد أسابيع قليلة من سقوط نظام الأسد، خرج المرشد الأعلى للنظام الإيراني، علي خامنئي، ليصف سقوط الأسد بالفوضى، متوعداً بهزيمة وشيكة للثوار السوريين. وفي خضم تعليقه على التطورات في أعقاب سقوط أهم حلفائه في المنطقة، أشار خامنئي إلى أن "الشباب السوري ليس لديه ما يخسره؛ فجامعته غير آمنة، ومدرسته غير آمنة، منزله غير آمن، شارعه غير آمن، وحياته غير آمنة"، بحسب زعمه، داعياً لظهور من وصفهم بـ "المجموعة الشريفة والقوية" لهزيمة الثوار السوريين. كان هذا الخطاب، بكل تأكيد، يحمل في طياته نبرة استعلائية وغروراً يفضح الوجه الحقيقي للنظام الإيراني، الذي لا يضيق صدره بمأساة الشعب السوري بقدر ما يبحث عن ملاذات استراتيجية أخرى في ظل الضغوط الداخلية والإقليمية.

خطاب خامنئي ذاك لم يكن موجهاً فقط إلى العلويين، بل كان يحاول أن يخاطب خوفهم العميق من المزاعم واسعة النطاق حول "الإبادة الجماعية الوشيكة"، وهي المزاعم التي حرص النظام السابق وجهات أجنبية عديدة على تنميتها على نطاق واسع داخل المجتمع العلوي، معتمداً على الرغبة في تعزيز الهيمنة الإقليمية عبر إدخال الجماعات المحلية في دوامة من الرعب النفسي والاضطراب الذي يمكن أن يزرع الحقد والتفرقة.

وعندما أطلق خامنئي تصريحاته تلك، كان متأكداً من أن أي طريقة، مهما كانت حكيمة وحذرة ومنضبطة، للتعامل مع الواقع العسكري والأمني في الساحل السوري، ستتأثر بالطبع بهذا العامل النفسي المزروع. هذا العنصر النفسي كان من شأنه أن يحرك الأحداث نحو أفق خطير، حيث تكتسب الحرب الطائفية في سوريا زخماً مع مرور الوقت، ما يصب في مصلحة طهران وأجنداتها الانتقامية. ذلك أن إغراق المجتمع السوري في حالة من الذعر والتشويش سيعزز من قدرة طهران على السيطرة على المشهد وتحقيق أهدافها السياسية في المنطقة.

كان هدف خامنئي من تحريك وكلاءه في سوريا واضحاً، وهو اللعب بآخر الأوراق المميتة في جغرافية لفظت نفوذه مرة واحدة وللأبد: إثارة ردة فعل مجتمعية غاضبة ومبالغ فيها لما يعتبر أنه دليل دامغ على الإبادة الجماعية الوشيكة. وكان يكمن في هذا تكتيك دموي يهدف إلى توظيف مشاعر الخوف بشكل ممنهج عبر وضع المدنيين كدروع بشرية لصالح بقايا النظام البائد، مما يسمح لإيران بالحفاظ على وجودها في سوريا لأطول فترة ممكنة.

هذا النهج أكدته الحملات المتكررة التي قادتها فرق وزارة الدفاع وقوات الأمن العام، التي تعرضت هناك لكمائن غادرة، بدأت كهجمات متفرقة وغير منسقة وانتهت اليوم بتمرد ناشئ أكثر تنظيماً وتنسيقاً ووحشية، استغل الظرف الإقليمي ودعوات الفدرلة والتقسيم التي رسمت مخططاتها التصريحات الإيرانية والإسرائيلية معاً.

وكانت هذه الأحداث بمنزلة إشعال فتيل حرب باردة طويلة الأمد في المنطقة، حيث تصبح سوريا ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الدولية والإقليمية.

في لقاء له مع صحيفة "فرهيختغان" الإيرانية قبل أيام فقط من بدء هذا التمرد، زعم علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي، أن الاستعدادات للتفكك قد بدأت في سوريا، متوقعاً أن تشهد سوريا اندلاع حرب أهلية في أي لحظة! هذه التصريحات، التي تحمل في طياتها إشارات تهديدية، تشير إلى النية الإيرانية المتعمدة لتحفيز فوضى إقليمية عارمة وتوجيهها لتحقيق مكاسب سياسية ودينية في المنطقة.

قبل ذلك، كانت مواقع إيرانية، قد أعلنت عن تأسيس ما سمته "جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا"، مدعية أن هدفها هو حماية المواطنين السوريين في بداية شهر كانون الثاني الماضي.

ومن النقاط المثيرة للاهتمام التي يجب ملاحظتها هو تشابه شعار "جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا" مع شعار ميليشيات "المقاومة العراقية" المنشأة حديثاً ذات الأصول الخفية التي تعود ملكيتها لطهران.

ومع الإعلان عن وجود هذه المجموعة، ارتفع عدد المجموعات التي أعلنت عن تأسيس نفسها لمحاربة الحكومة السورية الجديدة إلى مجموعتين بعد سقوط بشار الأسد، إذ أعلنت قبل ذلك مجموعة تسمى نفسها "المقاومة الشعبية السورية" عن وجودها، وأوضحت أن هدفها هو استهداف فصائل هيئة تحرير الشام المسلحة وغيرها من الفصائل الثورية السورية.

وكان من الواضح أن شعار ما يسمى "المقاومة الشعبية" بعيد كل البعد عن الشكل المتعارف عليه لميليشيات مدعومة إيرانياً، حتى أن تصميم الشعار بدائي وخالي من العمل الجرافيكي.

وكانت أولى عملياتها المعلنة رسمياً ببيان في حي الحمدانية في مدينة حلب في مطلع شهر كانون الثاني الماضي، مما أوحى أن الأمر ربما يعود لعمل اعتباطي مستعجل.

وهناك مجموعات أخرى من ذات الطابع أعلنت عن وجودها كجبهة تحرير جنوب سوريا، والتي روجت لها ذات المنصات المدعومة إيرانياً، مما أعطى لمحة أن مصدر هذه المجموعات هو جيش إلكتروني واحد. ورغم أن معظم بياناتها كانت تشمل عبارات مواجهة الكيان الإسرائيلي واستعادة الأراضي التي توغلت فيها إسرائيل مؤخراً إلا أنها مهمتها الرئيسية كانت موجهة ضد قوات حكومة دمشق.

وقبل أيام قليلة فقط من تشابك المخططات الإقليمية لبدء هذا التمرد الضخم، روجت بقوة وكالة أنباء "فارس" لبيان نشره ما يسمى القائد العام لـ"جبهة المقاومة الإسلامية" على منصاتها الرسمية. وأعلن البيان أن هدفه هو مواجهة "المخططات الانفصالية للولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، والمخططات التي يتم تنفيذها بالتنسيق الكامل مع المسلحين الحاكمين في دمشق"، مما يدل على أن إيران تعكف على إعادة بناء شبكة من الجماعات العسكرية التي تضمن استمرار هيمنتها في سوريا، باستخدام أساليب الحرب غير التقليدية التي تعزز من وجودها بشكل غير مباشر عبر وكلاء محليين.

الانتقام من تركيا من خلال تحويل سوريا لمستنقع

في مقال مطول لها تحت عنوان (انتهاء شهر عسل أردوغان في سوريا، ما هو وضع سوريا بدون بشار الأسد؟) نُشر الأربعاء الماضي، توقعت صحيفة "فرهيختغان" الإيرانية أن تتحول سوريا لمستنقع لتركيا في أعقاب خسارة إيران نفوذها هناك وإضعاف روسيا.

وذكرت الصحيفة أن نطاق نفوذ الرئيس السوري الشرع ما زال يشكل شريطاً ممتداً من الشمال إلى الجنوب في الغرب، ويشمل مدناً كبرى مثل حلب وحماة وحمص ودمشق.

وفي محاولة منها لتضخيم المعضلة، بينت الصحيفة أن المنطقة الوحيدة التي يسيطر عليها الشرع أكثر من مناطق سيطرة الأسد السابقة هي إدلب؛ متوقعة أن يواجه الشرع الآن مشكلات في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، أكبر من المشكلات التي واجهها الأسد في محافظة إدلب.

وقللت الصحيفة من تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حول أن بلاده تمتلك 80 ألف جندي من القوات المسلحة في سوريا، معتبرة أن هذا الحد الأقصى لقدرة المسلحين الذين تدعمهم تركيا لن يكون كافياً لبسط السيطرة والنفوذ.

وقارنت الصحيفة هذا العدد بأعداد ميليشيات أخرى تدعمها طهران في المنطقة، إذ قدرت عدد قوات الحشد الشعبي العراقي بنحو 120 ألف عنصر على الأقل، والتقديرات القصوى تضع هذا العدد عند 300 إلى 400 ألف عنصر، وقدرت عدد قوات "حزب الله" ما بين 50 و100 ألف عنصر.

وخلصت الصحيفة إلى أن الأرقام تظهر أن القوة العسكرية للمسلحين المدعومين من تركيا في سوريا ليست عالية جداً، على الرغم من كل الدعم.

وفي تبرير للخسارة المريرة التي منيت بها طهران في أعقاب عملية ردع العدوان، بينت الصحيفة أن ما أدى إلى سقوط نظام الأسد في واقع الأمر هو ضغط العقوبات، والحرب النفسية، والاستخدام المكثف للأسلحة الدقيقة في معركة حلب، والأهم من ذلك كله، المؤامرة والمساومات الدولية والإقليمية التي لعبت فيها عناصر من قوات النظام المخلوع وحزب البعث دوراً، بحسب ادعائها.

وزعمت فرهيختغان أن مستوى القدرة القتالية لمقاتلي "هيئة تحرير الشام" انكشف في هجومهم الأخير على قرى حدودية مع لبنان، حيث فشلت في مواجهة الحد الأدنى من قوات المقاومة اللبنانية التي كانت منظمة على شكل قوات قبلية، بحسب زعمها.

واستنتجت الصحيفة أن الاشتباكات الحدودية أظهرت أنه إذا أعاد "حزب الله" بناء نفسه في الأشهر أو السنوات المقبلة وتقلص التهديد العسكري من جانب إسرائيل، وإذا تم التخطيط للأمر بشكل صحيح، فإنه سيكون قادر على خلق مشكلات كبيرة لـ"تحرير الشام" من حمص إلى دمشق واستعادة هذه المناطق بمساعدة "المقاومة الشعبية السورية"، بحسب زعمها.

وخلصت الصحيفة إلى القول بأن العديد من الأمور ليست في أيدي أنقرة حتى في سوريا نفسها، زاعمة أن تركيا حققت اليوم أقصى ما كان بوسعها أن تحققه بإسقاط الأسد، لكن لا توجد أي مؤشرات على الأمن أو الربحية الاقتصادية، متوقعة أن تتحول سوريا لمستنقع ونقطة تآكل دائمة بالنسبة لتركيا.

يقرأون الآن