بين كارثة

أثارت عملية إطلاق الصواريخ حالة من التوتر والقلق على المستويين الرسمي والشعبي، لكنها كشفت عن تغييرات جوهريّة في مقاربات "حزب اللّه" وحلفائه، ونسفت سرديّات كانوا يعتبرونها في السابق مسلّمات غير قابلة للنقاش.

فقد بات العمل العسكري من لبنان ضد إسرائيل عملاً "لقيطاً" ومحل تبرّؤ علني من قبل "حزب اللّه"، فيما وصفه حلفاؤه بأنه "عمل مشبوه" قد يجرّ الويلات على البلد. موقفٌ يعكس تناقضاً جوهريّاً مع مواقف "الحزب" السابقة، إذ كان يعتبر أي اعتراض على فتح "جبهة الإسناد" تخاذلاً عن دعم القضية الفلسطينية، بل وصل الأمر إلى اتهام معارضي "جبهة الإسناد" بخدمة إسرائيل وتبرير عملياتها العسكرية ضد لبنان.

إنّ الموقف الرسمي لـ "الحزب" وحلفائه يعكس تبدّلاً لافتاً في مقاربتهم السياسية والميدانية، ما يُشير بوضوح إلى مدى ارتداع "حزب اللّه" عقب الحرب الأخيرة. علماً بأن عملاً كهذا يتزامن مع مفاوضات جارية بين الولايات المتحدة وإيران، وتجدّد الحروب في غزّة واليمن، إلى جانب استهداف الحوثيين وحركة حماس، إسرائيل بالصواريخ. في هذا السياق، تبدو الصواريخ التي أُطلقت من لبنان، المجهولة في التبنّي والمعلومة في السياسة، آتيةً لتكمّل مشهد "وحدة الساحات"، حيث تحمل رسالة إيرانية إلى واشنطن وتل أبيب مفادها أن طهران لا تزال تمتلك القدرة على تحريك الجبهات. أمّا تبرؤ "حزب اللّه" من هذه الصواريخ يأتي في إطار التخفيف من تبعات هذا العمل عليه بعد أن وصلت الرسالة إلى من يعنيهم الأمر.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الفاعل الذي دخل في وضح النهار إلى منطقة هي بيئة حاضنة لـ "حزب اللّه"، وقام بعملية الرصد وبعدها تجهيز وإطلاق الصواريخ، من ثم الانسحاب بأمان، لا يزال مجهولاً بعد مرور حوالى أسبوع على الحادثة. والتجارب السابقة تؤكّد أنّ لـ "حزب اللّه" يداً في كلّ عمل أمني يبقى فاعله "مجهولاً".

أمّا على المستوى الشعبي، فقد قوبل إطلاق الصواريخ بحالة من القلق المترافق مع استياء عارم في الأوساط الجنوبيّة، حيث برزت اعتراضات واسعة على ما اعتُبر محاولة جديدة لـ "توريط" الجنوب في مواجهة عسكريّة، في وقت لا تزال تداعيات الحرب الأخيرة ترخي بثقلها عليهم. وزاد منسوب الغضب مع تداول روايات تتهم جهة فلسطينيّة بهذا العمل، ما أثار استنكاراً واسعاً ورفضاً لما اعتبره الجنوبيّون استمراراً في دفع أثمان من أجل فلسطين.

تعكس هذه المواقف نزعة جنوبيّة متزايدة نحو إنهاء معادلة الساحة المفتوحة، ورفض إعادة فتح الجبهة. كأنّ خيار طيّ صفحة المواجهات التي ظلّت تستنزف مقدّراتهم منذ اتفاق القاهرة عام 1969، يزداد نضجاً ويقترب تدريجياً من أن يصبح الخيار الأوضح.

ما هو واضح أنّ هذه الصواريخ لم تصب أهدافاً عسكرية إسرائيلية، لكنها أصابت السرديّة التي لطالما قامت على التباهي بتبنّي أو تأييد كل عمل عسكري ضد إسرائيل تحت عنوان المقاومة أو دعم غزّة، وأسقطت أيضاً سرديّة تمتّع العمل العسكري انطلاقاً من الجنوب بالدعم الشعبي الجنوبي.

لذلك، إنّ استمرار "حزب اللّه" في المكابرة عن الإقرار بأن الجنوب لم يعد "ساحة"، كما تأخّره عن التخلّي عن سلاحه، سيزيد ثمن الفاتورة السياسية والبشرية والعمرانية، لكن لن يغيّر في واقع الأمر شيئاً.

وإذا كانت "جبهة الإسناد" شكّلت عنواناً للكارثة، فأقلّ ما يُقال بـ "الصواريخ اللقيطة" إنها المهزلة. كفى الجنوبيين شرّ الكارثة والمهزلة!!

نداء الوطن

يقرأون الآن